23-أكتوبر-2022
تيك توك على عرش السوشال ميديا

تيك توك ملك السوشال ميديا بلا منازع (NYMag)

يقول صاحب أحد الحسابات على موقع تيك توك: "تصلني آلاف العروض للعمل مع سناجبي، ولا أحد حتى يعرف من أنا." كلمة "سناجبي" هنا هي ليست مجازاً أو الهدف منها مثلاً جذب الناس لرؤية المنشورات الأخرى الموجودة على صفحته مستغلاً جاذبية حيوانٍ مثل السنجاب، بل هو فعلاً حسابٌ لشخصٍ يعمل مدرّب كاراتيه، قرّر في أحد الأيام التي كان فيها عاطلاً عن العمل إنشاء حساب ورفع فيديوهات لسناجب يأكلون البندق، هذه هي كل قصة الحساب.

لقد استبدل تيك توك سؤال "ماذا أريد أن أشاهد" بفورانٍ هرمونيٍّ مستمرٍّ يُديمه تتابع الفيديوهات القصيرة... تمنح المستخدم حقنة إندورفين واحدةً بعد الأخرى.

خلال بضعة أشهر وصل عدد المتابعين إلى 15 مليون متابع. وبناءً على تقديرات إحدى الشركات المختصّة بدراسة ظاهرة "الإنفلونسر" هذا، فإن حساباً بهذا الحجم يستطيع أن يجني 14 ألف دولاراً مقابل المنشور الواحد.

طيب، فلنحاول وضع هذا الرقم، وهذا الحساب، ضمن سياقٍ أكبر، وهو تصنيف حسابٍ كهذا. والذي ببساطة هو واحدٌ من الحسابات العديدة للحيوانات على تيك توك، أي أنه مساحةٌ من عدة مساحاتٍ تتناول اهتماماتٍ مختلفة، منها مثلاً صيد الأسماك (#fishtok فيها 14 مليار، ليس مليون، مشاهدة)، والزراعة (#farmtok، 7 مليارات)، وعالم تقمّص الأدوار، أو "الرول بلاي"، (#medievaltiktok، 4 مليارات)، وهناك مساحاتٌ خاصّة تستطيع إن تتابعها إن كنت تحب عالم الشرطة أو  التمريض، أو حتى الرهبانية، بل يسمح لك تيك توك أيضاً أن تجد ما يناسب طبعك في حياة منزلك، فهناك وسم خاص بالترتيب والنظافة، (#cleantok)، وآخر يفضّل الفوضى (#cluttercore)، وإذا كنت تحبّ شيئاً من التسلية الوجودية فستجد مساحة السعادة #happiness (16 مليار مشاهدة)، والألم #pain (76 مليار). هذا طبعًا عدا عن الوسوم باللغات الأخرى. 

لقد أصبح تيك توك بلا منازع ظاهرةً لها القدرة على إعادة تشكيل الأذواق والعقول والمجتمعات والعالم. يزور الناس اليوم تيك توك أكثر مما يزورون غوغل، وتُجمع عدة شركاتٍ مختصّةٍ بالتحليل بالرقمي أن ما يقضيه الناس اليوم على تيك توك من الوقت يفوق ما يقضونه على الفيسبوك والإنستغرام معًا. لقد بات تيك توك جزءًا من نسيج حياة الناس في مختلف أنحاء العالم.

tiktok

وللقارئ أن يتصوّر أن الأرقام والأرباح التي يولّدها تيك توك، بما يوازي كل هذه الشهرة والانتشار. ولكن هل كل هذا النجاح يعود إلى قدرة تيك توك على إغراء الناس باستخدامه لساعاتٍ طويلة بتشجيعه لفيديوهاتٍ قصيرة يسهل مشاهدتها والانتقال من فيديو لآخر لدرجة أن الشبكات لم تجد مفرّاً من تقليدها سواءً كالريلز على الإنستغرام أو الشورت على اليوتيوب، بل إن الذعر وصل بمنافسي تيك توك إلى قيام شركة ميتا، التي يندرج تحتها الفيسبوك والإنستغرام، لأن تحاول في لحظةٍ ما تجييش نفوذها السياسي والاستعانة بشركة لوبيات تدعم الحزب الجمهوري لتخويف الناس من تيك توك على أساس أنه هو التهديد الحقيقي للمراهقين في أمريكا. 

الإجابة على هذا السؤال الطويل هو نعم، هذه الفيديوهات القصيرة جزءٌ مهم من الإجابة على لغز تيك توك. ولكن جواب هذا السؤال، كيف التهمَ تيك توك الإنترنت، فيه من التفاصيل ما هو أكثر من مجرّد الفيديوهات القصيرة، فهناك الخوارزميات والإعلانات والنجاح السريع والسيكولوجيا، وطبعاً السياسة. 

لم نكن نحن الوحيدين الذين أرّقنا هذا السؤال، بل هو بالحقيقة عنوانٌ مترجم لتقريرٍ نشرته الواشنطن بوست ننقله لكم بتصرّف. وقبل نصّ المقالة يبقى أن نقول أن هذا التقرير هو جزءٌ من سلسلةٍ ثلاثية تنوي الصحيفة إتمامها، وتتناول أيضاً فكرة الانتشار المضطرد أو ما يُعرف بـViral، وتنامي نفوذ بكين على حساب واشنطن بفضل تيك توك. 

تيك توك.. معكم أينما كنتم 

إذا كنت اليوم ممن يترّفعون عن الخوض في سفاهة تيك توك واستخدام المنصة، فاعلم أنّك قريبًا ستكون وحدك. أصبح تيك توك، الذي لم يتجاوز عمره خمسة أعوام، أحد أضخم وأشهر الظواهر على الإنترنت، بعد أن كان في أحد الأيام مجرد منصة بدت هامشية وسخيفة يرفع عليها الناس فيديوهاتٍ لهم وهم يرقصون. هذه الظاهرة يلحقها نقاشٌ محتدمٌ وشكٌّ كبير من الكثير من الناس، وتنطوي على إتقانٍ تقنيٍّ معقّد وتأثيرٍ جيوسياسيٍّ كبير. لقد لفّت ظاهرة تيك توك اليوم ثقافة العصر وتفاصيل حياة الناس اليومية، وأصبحت عنصراً في الحرب بين أكبر قوى العالم.

لا يمكن اليوم بحال غضّ النظر أو الاستخفاف بالمدى الذي وصلت إليه هيمنة تيك توك على العالم الرقمي. تُجمع عددٌ من الشركات المختصّة بتحليل شبكة الإنترنت، وهي "كلاودفلير" و"داتا دوت آي" و"سينسوري تاور"، أن موقع تيك توك يزوره المستخدمون أكثر من غوغل، وقد استطاع الوصول إلى مليار مستخدم بسرعةٍ قياسيةٍ غير مسبوقة من قبل منصات مماثلة، منهم 100 مليون في الولايات المتحدة، أي أن ثلث الأمريكيين صاروا اليوم على تيك توك، ويستخدم الأمريكي تيك توك بمعدّلٍ يُقدّر بـ80 دقيقةً يومياً، أي أن الوقت الذي يقضيه على تيك توك يفوق ما يقضيه على الفيسبوك والإنستغرام مجتمعين.

ترتفع أسهم تيك توك بتسارعٍ مخيف فيما تتقلّص حصة الشبكات الأخرى ربما بنفس القدر. يُفيد استبيانٌ أجراه مركز "بيو" للأبحاث في شهر آب/أغسطس الماضي أن استخدام فيسبوك بين المراهقين الأمريكيين قد تقلّص إلى النصف منذ عام 2015، وبالمقابل يقول مراهقٌ من بين كل ستة مراهقين أنهم يجلسون على تيك توك بصورةٍ "شبه دائمة". وهناك تقريرٌ آخر لشركة "كوستيدو" المختصّة برقابة الأهالي على أبنائهم يقول أن تيك توك هو أكثر تطبيقٍ اجتماعيٍّ يستخدمه الأطفال وأن تيك توك هو أيضاً أكثر تطبيقٍ يحاول الأهل حجبه. وصحيحٌ أن ما يصل إلى نصف جمهور تيك توك في الولايات المتحدة هو ممن أعمارهم دون الـ25 عاماً، ولكن شباك تيك توك قد أوقعت أيضاً بكبار السن. فتتنبّأ الشركة التحليلية "إي ماركتر" أن جمهور تيك توك ممن أعمارهم تفوق 65 عاماً ستزيد هذا العام بنسبة 15%.

عالمٌ جديد

انتشار تيك توك الكبير لم يكن مجرّد صدفةٍ سعيدة حصلت لأصحاب التطبيق، بل لفهم هذا النجاح لا بد لنا أن ندرك أن تيك توك قد تمرّد على النموذج الذي وضعه "السليكون فالي" لما نعرفه اليوم عن التواصل على شبكة الإنترنت. كنّا سابقاً نختار المحتوى الذي نستهلكه بناءً على الاهتمامات والأشخاص الذين نختارهم ونتواصل معهم. تيك توك لا يعنيه ذلك أبداً، بل يضع أمام المتابعين سيلاً لا نهاية له من الفيديوهات يختارها لهم خوارزميته، وشيئاً فشيئاً تتعلّم هذه الخوارزمية ذوق المستخدم مع كل ثانيةٍ يقضيها المستخدم على أي فيديو. يعني لست أنت من يُملي على تيك توك ما تريد مشاهدته، بل العكس هو الصحيح.

العمر الصغير لجمهور تيك توك أمرٌ يستحق الاهتمام كذلك، كما تؤكّد "آبي ريتشاردز التي تدرس التضليل الإعلامي على تيك توك وعندها حسابٌ يتجاوز متابعوه النصف مليون: "تجاوزنا مرحلة تطبيق الرقص. نحن نحكي اليوم عن منصةٍ تشكّل عقلية جيلٍ بأكمله في رؤيته وفهمه للعالم."

 

تيك توك لا يشكّل ويعجن أذهان الجيل القادم وحسب، بل قد يشكّل منطق الإنترنت بأكمله، ولقد رأينا جميعاً كيف خضع اليوتيوب والإنستغرام لنجاح تيك توك وقاموا بإضافة "الشورت" و"الريل" على التوالي.

ومع كل هذا الانتشار لا بد لنا أيضاً من النظر إلى التأثير الكبير على ثقافة الناس. مثالٌ بسيطٌ على ذلك هو ما يُعرف بمساحة #BookTok التي نجد فيها أكثر من 78 مليار (وليس مليون) مشاهدة، وتنامي هذه المساحة جعل من عام 2021 أحد أفضل الأعوام للعاملين في مجال نشر الكتب وبيعها منذ سنواتٍ طويلة. وأكبر نجوم هذه المساحة هي المؤلّفة "كولين هوفر" التي باعت نسخاً من كتبها تفوق ما بيع من الكتاب المقدّس هذا العام وفقاً لتقرير NPD BookScan الذي يرصد مبيعات الكتب في أكثر من 16 ألف متجر كتب حول الولايات المتحدة.

بفضل تيك توك، باعت "كولين هوفر" نسخاً من كتبها تفوق ما بيعه من الكتاب المقدّس هذا العام وفقاً لتقرير NPD BookScan الذي يرصد مبيعات الكتب في أكثر من 16 ألف متجر كتب حول الولايات المتحدة

الأهم من ذلك أن تيك توك قد أصبح بحد ذاته أداةً يستخدمها الناس للبحث وقراءة الأخبار. أجرت شركة غوغل استبياناً هذا العام كشف أن 40% من الجيل زي (الذين وُلدوا بين نهاية التسعينات وعام 2010) يستخدمون تيك توك أو إنستغرام للبحث عن مكانٍ لتناول الغداء. ونشر أحدهم تغريدةً في شهر حزيران/تموز الماضي "أنا لا أبحث عن الأشياء على غوغل، وإنما تيك توك،" وحصلت هذه التغريدة على 120 ألف إعجاب.

يتزامن ذلك مع غياب ثقة الأمريكيين بالمنظّمات الإخبارية، ومن كان غير تيك توك ليملأ هذا الفراغ. إذ يقول واحدٌ من بين ثلاثة متابعين لتيك توك أنهم يستخدمون الموقع بشكلٍ دائمٍ لمعرفة ما يحدث. وقال مركز "بيو" للأبحاث الشهر الفائت أن تيك توك هو أسرع مصادر الأخبار نمواً في بريطانيا بين البالغين. (حتى أن صحيفةً مثل الواشنطن بوست لديها حساب تيك توك يتجاوز متابعوه المليون).

تيك توك والعقدة الصينية

تعود ملكية تيك توك إلى الشركة الصينية العملاقة "بايت دانس". في الولايات المتحدة على الأقل، يرى البعض أن هذه مشكلة، فقد أصدرت الأذرع الحكومية الأمريكية قراراً بحظر التطبيق من الهواتف التي تعطيها الحكومة. وأبدى بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي مخاوف من أن يكون تيك توك هو أشبه بحصان طروادة الهدف منه بثّ البروباغندا الصينية وبناء آلة مراقبة.

وكما قلنا أعلاه، فإن شعبية تيك توك في عالم الأخبار هي بحد ذاتها سببٌ للقلق، فتيك توك يستخدم نظاماً مبهماً لترويج بعض أشكال المحتوى وكبح أخرى، والسؤال هو هل يُخفي هذا النظام وراءه أذرعاً تتحكّم بالمحتوى والمعلومات المنشورة على تيك توك؟ بعض صانعي المحتوى على تيك توك يحاولون الالتفاف حول بروتوكولات تيك توك باستخدام كلماتٍ سرية لها استخداماتها في نقاشاتٍ معيّنة، ومن ذلك مثلاً استخدام تعبير "غير حي" بدلاً من "ميّت"، و"عملية" بدلاً من "إجهاض"، وهكذا.

وطبعاً يؤكّد مسؤولو تيك توك أن التطبيق لا يخضع لنفوذ الأجندة الحكومية، وكل همّه هو تقديم منصة ترفيه يجد فيها الناس الترويح عن أنفسهم والابتعاد عن الهموم. وقد حاول تيك توك الإجابة على هذه المخاوف باستقدام مختصين يُقيمون في الولايات المتحدة مع التعهّد بالشفافية وتخزين بيانات المستخدمين الأمريكيين على خوادم في الولايات المتحدة نفسها.

ولكن، مرةً أخرى، يقول بعض الموظّفين السابقين في تيك توك وأيضاً بعض الخبراء التقنيين أن المسؤولين عن القرار بالنهاية يعملون في بلدٍ قلّ من يضاهي قدرته على استخدام الإنترنت لبثّ البروباغندا ومراقبة شعبه واكتساب النفوذ وقمع المعارضة. ويبقى هذا النقاش قائماً حتى اليوم في الولايات المتحدة وبين مشرّعي القوانين هناك، بين من يرى فرض المزيد من الرقابة على التطبيق وبين من يرى أنه لا بد من حظره بالكليّة.

الخطر القادم من تيك توك 

 يرى الكثيرون من صانعي المحتوى على تيك توك أن نقاشنا عن جذور تيك توك الصينية يُلهينا عن مشكلةٍ مباشرةٍ أكبر لمسوها في ظلّ النموّ المتسارع لتيك توك. هذه المشكلة هي قدرة تيك توك على جعل أي إنسانٍ مشهورٍ بين ليلةٍ وضحاها، وهذا يعني أن مشاكل الضغط والغضب التي يعاني منها المشاهير باستمرار أصبحت مشكلة يواجهها ناسٌ عاديون.

وتتجاوز أبعاد هذه المشكلة ذلك، إذ أن إغراء الشهرة ومعادلة تيك توك المبهمة عن الشهرة قد شكّلت سلوك الناس وكلامهم وأحلامهم. 

إذاً كيف التهم تيك توك الإنترنت؟ 

السرّ يكمن في الخوارزمية.. يبدأ تيك توك بدراسة مستخدميه منذ اللحظة الأولى التي يفتحون بها التطبيق. وتكون البداية، ربما كما يعرف جميعنا وقد جرّبنا تيك توك، بفيديوهاتٍ ملء الشاشة تتوالى واحداً تل والآخر، وتدرس خوارزمية تيك توك ردّة الفعل، فهل غيّرنا الفيديو بسرعةٍ خاطفة وهو ما يعني أننا نرغب بشيءٍ آخر، أم هل تردّدنا للحظة، وهو ما يعكس شيئاً من الاهتمام. كل ردة فعل هي بياناتٌ جديدة تستخدمها الخوارزمية لانتقاء المحتوى من محيطٍ من الفيديوهات يتحوّل إلى محتوىً مغرٍ للمستخدم لا يمكن التوقّف عن استهلاكه.

يُطلق تيك توك على خوارزميته اسم "لك"، أو For You، وتبني هذه الخوارزمية صورةً عن ذوق المستخدمين بناءً على سلكوهم وليس بناءً على اختيارهم. وهنا يكمن الفرق الهام، ففيسبوك وغيره من الشبكات تعتمد على مستخدميهم لتحديد محتواهم من خلال إدخال اهتماماتهم أو المشاهير الذين يتابعونهم، أما تيك توك فهو يشاهد ويتعلّم بصمت ليستطيع تحديد رغباتٍ ومساحاتٍ لا يعرف المستخدم نفسه أنها تهمّه.

ولو كان لنا أن نخوض أكثر قليلاً ببعض التفاصيل التقنية، فإن هذا النظام يقوم على محرّكٍ لتعلم الآلة يصفه باحثو شركة "بايتدانس"، مالكة تيك توك، بنظامٍ شبه خطي يتبع نظرية التعقيد الحسابي (Sub-Linear Computational Complexity)، لهذا المصطلح دلالاتٌ مختلفةٌ في علمي الرياضيات والحاسوب، وبالمختصر فالهدف من هذه الأنظمة تحديد مدى تعقيد المسائل والمشاكل وحلّها، ولكن بالنسبة لمستخدم تيك توك فالعملية أبسط بكثير: افتح التطبيق، شاهد فيديو، ثم شاهد فيديو آخر. وقد أثبت هذا النظام نجاعته فقد عبّر الكثير من المستخدمين عن دهشتهم، وعدم ارتياحهم، من هذه الخوارزمية التي استطاعت فهمهم وقراءتهم بكل سهولة، وذلك بعرضها لفيديوهاتٍ لم يبحثوا عنها ولم يُدركوا أصلاً أنهم يريدون مشاهتها.

هذه الخوارزمية هي العمود الفقري الذي يقوم عليه تيك توك، ولو أن العملية تبدو بالنسبة لك مجرد تمرير الفيديوهات من غير تفكير. كل فيديو تتجاوزه يعدك بأن الفيديو القادم سيكون أفضل، ولكن لا تعرف أنت متى سيأتي الفيديو الذي ترغب حقّاُ بمشاهدته، ولهذا فعليك أن تستمر بمشاهدة الفيديو تلو الفيديو باحثاً عن شيءٍ لا تعرفه وربما لن تجده. وهذه العملية بحد ذاتها مسليّةً تشدّ المستخدم وتمنعه من ترك التطبيق.

أرقامٌ مجنونة

تضاعف عدد الساعات اليومي الذي يستخدم فيه الشعب الأمريكي تيك توك بنسبة 67% بين عامي 2018 و2021، بينما تقلّصت ذات النسبة في الفترة نفسها لاستخدام فيسبوك ويوتيوب بنسبة 10%. وتصف الشركة البحثية "بيرنستين ريسيرتش" هذه الظاهرة وصفاً بليغاً في تقرير صدر عنها في آب/أسغسط الماضي: "لقد استبدل تيك توك سؤال (ماذا أريد أن أشاهد) بفورانٍ هرمونيٍّ مستمرٍّ يُديمه تتابع الفيديوهات القصيرة... تمنح المستخدم حقنة إندورفين واحدةً بعد الأخرى."

بطبيعة الحال كان المشاهير، كغيرهم، ممن أغراهم هذا القبول الواسع لتيك توك. وواحدٌ من هؤلاء كان فنّان الراب البورتريكي "باد باني" الذي فور ما أنشأ حسابه ورفع فيديو له وهو يأكل "الفروتلوبز" بتعابير وجهٍ ميتة استطاع أن يحصد 90 مليون مشاهدة.

أما "مشاهير تيك توك" أنفسهم فأرقامهم لها حسبتها الخاصة التي تتجاوز كل الشبكات الأخرى. فهناك "خابي لام" الذي كان في أحد الأيام عامل مصانع في إيطاليا. استطاع ذو الـ22 عاماً أن يحصد 150 مليون متابع، أي أنه تجاوز أعلى رقمٍ من المتابعين استطاع ترمب الوصول إليه على تويتر بفارق 60 مليون متابع. وهناك "تشارلي ديأميليو" ذات الـ18 عاماً التي اشتهرت بفيديوهات الرقص، فقد حصدت أكثر من 11 مليار إعجابٍ على فيديوهاتها.

Khaby Lame

مما يساعد هذا النمو المطرد لأشخاصٍ مغمورين هو الأدوات اليسيرة التي يوفّرها تيك توك لمستخدميه ومنها المكتبة الكبيرة من المقاطع الموسيقية وأدوات تحرير الفيديوهات والتأثيرات البصرية والفلاتر، التي تقدّم كلها معاً واجهةً بسيطةً جذّابة. وهناك أيضاً سياسة تيك توك بعدم وضع تواريخ رفع الفيديو، وهو ما يجعل أي فيديو تشاهده عبر خوارزمية For You يبدو لك جديداً ومهماً.

على النقيض من الإنستغرام والفيسبوك الذي ينافس فيها صانع المحتوى الناشئ القنوات الكبيرة ذات الميزانيات الضخمة، تقلّص هذه التيسيرات الفجوة بين صانع المحتوى وبين الحسابات ذات القدرات الإنتاجية الاحترافية، وبهذا تتحوّل حتى أبسط وأسخف الفيديوهات إلى فرصةٍ كبيرةٍ للنجاح. ولعل أفضل مثالٍ على ذلك هو فلتر الشاشة الخضراء (Green Screen) الذي يستخدمه البعض لتصوير أنفسهم وهم يعلّقون على خبرٍ صحفي أو محادثةٍ نصيّةٍ أو تغريدةٍ تظهر خلفهم.

على مستوىً أعلى، هناك الأدوات الأخرى التي يستطيع فيها صانعو المحتوى جني الأرباح على تيك توك في ما يُعرف بـ"سوق صنّاع المحتوى" (Creator Marketplace)، وهو دائرةٌ مغلقةٌ يُنتقى من يُدعى إليها، ويتمّ فيها تصنيف صانعي المحتوى بناءً على نوع محتواهم وعدد متابعيهم. في هذا الجناح من تيك توك يجب على صانع المحتوى رفع فيديوهاتٍ مدفوعة كإعلانات، ويُشترط عليهم رفع محتوىً باستمرار. ومع أن الإنستغرام لا يزال يملك اليد العليا في الفيديوهات المدفوعة، ينمو تيك توك بسرعةٍ مضطردة في هذا المجال، فيفوق ما يجنيه صانعو المحتوى من أرباح الإعلانات ما يجنيه نفس صانعو المحتوى على الفيسبوك بفارقٍ يصل إلى 750 مليون دولار وفقاً لتقديرات برنامج "إنسايدر إنتيلجنس".

ويُضاف إلى ذلك ما يُعرف بالهدايا (هدايا تيك توك) التي يُهديها الجماهير إلى صانعي المحتوى باستخدام عملةٍ خاصّةٍ بتيك توك، وتشمل هذه الهدايا أشياء مثل الزهور والدونتس.

وربما يبدو ذلك أمراً بسيطاً، ولكن سوق الهدايا أصبح يعادل اقتصاد بلدٍ صغيرٍ، فقد أنفق مستخدمو تيك توك على هذه الهدايا أكثر من 900 مليون خلال الأشهر الثلاث الماضية، وهو أضخم حجمٍ من الإنفاق على تطبيقات الشبكات الاجتماعية على الإطلاق خلال فترة ثلاثة أشهر.

هذه الهدايا كانت محور تحقيقٍ قامت به البي بي سي ذهب إلى أن تيك توك يجني إيراداتٍ عبر استغلال معاناة لاجئين سوريين، حيث يقوم التطبيق يأخذ ما نسبته 70% من أموالٍ تُرسل إلى لاجئين سوريين عبر هذه الهدايا.

"إنه الحلم الأمريكي الجديد"

كل هذا يزيد من إغراء تيك توك الذي يعد أي إنسانٍ بالشهرة والنجاح. معلّمو المدارس يتحدّثون عن طلابهم الذين يفوّتون الحصص لتسجيل فيديوهات الرقص في الحمامات، والمعابد البوذية تُضطر لوضع لوحاتٍ كُتب عليها "تيك توك ممنوع". ربما كان أفضل ما يصف ذلك هو ما قاله طالبٌ جامعيٌّ في جامعة "كورنيل" المرموقة (والباهظة) استطاع التكفّل بدفع رسوم جامعته بفضل تيك توك: "الشهرة على السوشال ميديا هي الحلم الأمريكي الجديد."

ذعر في السيلكون فالي

يبدو أن الحلم "الأمريكي" الجديد لا يزال يطمع بالمزيد. لقد وصل الأمر إلى قيام تيك توك بتسويق خوارزمياته لدراسة السلوك لأصحاب الإعلانات، إذ يعدهم تيك توك بالطريقة الأمثل لمعرفة الإعلانات التي تجذب الناس دون الحاجة إلى سؤالهم حتى. وكانت هذه ضربةً ناجحةً أخرى لتيك توك الذي جنى ما يصل إلى 12 مليار دولار من أرباح الإعلانات وفقاً لتقديرات "إيماركتير"، ويُتوقّع أن يتجاوز حتى أرباح اليوتيوب من الإعلانات بحلول عام 2025.

بل إن تيك توك ذهب إلى ما أبعد من ذلك باحتلال مساحةٍ أكبر من العالم الرقمي. حيث تقوم الشركة حالياً باختبار مزايا جديدة كالألعاب التفاعلية المصغّرة، والسير الذاتية، وأيضاً بدأت ببيع تذاكر الحفلات، وبنت خدمةً كاملةً للبثّ المباشر يظهر عليها من يطهو الطعام أو يكشط تذاكر اليانصيب أو يقوم بجولات داخل شققٍ لبيعها. بل وصل طموح تيك توك، كما يبدو، إلى مزاحمة أمازون.

هذا الصعود السريع لتيك توك تزامن مع هبوطٍ في أسهم شركات السيلكون فالي، وهو بطبيعة الحال ما أثار غيظ هذه الشركات، وخصوصاً الفيسبوك الذي كشف في شهر شباط/فبراير الماضي أن الشركة قد خسرت مستخدمين للمرة الأولى منذ تأسيسها قبل 18 عاماً. بل، بحسب فيسبوك نفسها، كانت أكثر الروابط انتشاراً على الفيسبوك في الربع الثاني من هذا العام هي روابط تذهب إلى موقع تيك توك.

وقد حاولت شركة ميتا، المالكة لفيسبوك، أن تحارب تيك توك من خلال الاستعانة سرّاً بشركة لوبيات تدعم الحزب الجمهوري طُلب منها القيام بحملة ضغط وكتابة رسائل بهدف تهويل تهديد تيك توك على أنه "التهديد الحقيقي" للمراهقين الأمريكيين. ولكن في النهاية لم تجد شركة ميتا مفرّاً من استنساخ تجربة تيك توك بالتحوّل من التركيز على شبكات العلاقات والأصدقاء والعائلة، واستبدال ذلك بخوارزميات مشابهةٍ لتيك توك في توصية الحسابات التي يرغب المستخدمون بمصادقتها.

أصبح تيك توك بلا منازع ظاهرةً لها القدرة على إعادة تشكيل الأذواق والعقول والمجتمعات والعالم

بل إن المفارقة المضحكة أن المرة الوحيدة التي استطاع فيها اليوتيوب هزيمة تيك توك مؤخّراً هي بعدما أجبر نفسه على استنساخ الفيديوهات القصيرة، حيث كشف اليوتيوب في حزيران/يونيو الماضي أن خدمتها الخاصة للفيديوهات القصيرة "YouTube Shorts" تجذب ما يصل إلى 1.5 مليار مستخدمٍ شهرياً مقارنةً بالمليار مستخدم الذي استخدم تيك توك العام الماضي.