27-يوليو-2022
tiktok logo

يتسع نطاق تأثير تيك توك عالميًا (Getty)

يصعب تقدير الحالة التي سيكون عليها الإعلام الرقمي في المستقبل القريب بدون النظر إلى تيك توك ومتابعة الأرقام التي تردنا من تلك البقعة الرقمية، التي تبدو لبعضنا قصيّة وغريبة. أكثر من مليار مستخدم شهريًا، وبأوقات قياسية على التطبيق مقارنة بالتطبيقات الأخرى، مع موجات هجرة مستمرّة منها إلى تيك توك، وهجرة قسريّة داخل التطبيقات المنافسة إلى أسلوب العملاق الصيني وطرز محتواه وخوارزمياته. وبحسب بعض التقديرات، فإن جيلًا من مستخدمي الهواتف الذكية اليوم قد نشأوا على تيك توك فقط (TikTok natives)، ولن تجد لهم أثرًا رقميًا على فيسبوك، عداك عن تويتر طبعًا. 

النموّ السريع الذي يحرزه تيك توك، حتى على صعيد الأخبار، لا يعني أي تهديد بالنسبة إلى الصحافة التقليدية

جزء عن صورة هذا المستقبل بدأت تتجلّى اليوم، وتدلّ عليها بعض التحوّلات التي خلقها تطبيق تيك توك. والحديث هنا عن الاتجاه الملاحظة في عدد من الدول، غير العربية، بفضل توفر بعض الأرقام والتقارير التي يمكن الثقة بها. وقد كان آخر هذه التقارير وأبرزها تقرير هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية "أوفكوم"، والذي أشار إلى تزايد نسبة المستخدمين اليافعين الذين يعتمدون على "تيك توك" للبحث عن المعلومات والأخبار، ويؤكّد أن تيك توك هو التطبيق الأسرع نموّا كمصدر للأخبار بين الشباب.

التقرير الذي نشرته "أوفكوم" يعضده تقرير سابق صادر عن معهد رويترز لدراسة الصحافة، وهو تقرير الإعلام الرقمي الصادر في شهر حزيران/يونيو الماضي، والذي يشير إلى الاتجاه ذاته، الدالّ على تزايد الاعتماد على تيك توك، وإنستغرام، كمصادر للأخبار، وذلك في دول أخرى إلى جانب بريطانيا، مثل الولايات المتحدة والبرازيل وغيرها. ففي تايلند مثلًا، بلغت نسبة من استخدموا تيك توك للبحث عن الأخبار بين فئة المستخدمين بين 18 و24 عامًا حوالي 22 بالمئة، وقد سجلت نسب قريبة في كينيا وجنوب أفريقيا. ثمة أرقام لافتة أخرى في التقرير، تشير إلى سيطرة وسائط شعبية مثل واتساب وتليغرام على عمليات البحث عن الأخبار والتفاعل معها، وذلك في بعض الدول الأفريقية، مثل نيجيريا وكينيا وجنوب أفريقيا، وهو اتجاه يتصاعد في بعض الدول العربية، مثل العراق، حيث تكتسب قنوات تليغرام التابعة لوسائل إعلام ومواقع إلكترونية وفعاليات وفصائل وأحزاب، أهمية متزايدة، ومنها قناة موقع "التراعراق"

ورغم أن النسب التي حققتها تيك توك ما تزال متواضعة فيما يتعلق بالأخبار والبحث عن المعلومات، إلا أن التقرير يرى إلى تلك اللحظة التي قد يصبح التطبيق عندها لاعبًا أساسيًا في قطاع صناعة الأخبار في السنوات المقبلة، في مختلف قارات العالم، من بينها آسيا وأفريقيا. فقاعدة مستخدمي التطبيق تتمدّد على متغيّر الفئة العمرية، لتشمل المستخدمين فوق سن 25 عامًا، وهو يعني أن تيك توك لم يعد تطبيقًا للرقص وتركيب الأصوات على مقاطع الفيديو وحسب، بل يملك كذلك إمكانات هائلة، ليكون مصدرًا للمعلومات، لمن أراد إليها سبيلًا، وبالشكل الذي فرضه التطبيق وطوّر نموذجه بناء عليه. 

tiktok on smartphone
لجأ الكثير من الصحفيين والمواطنين الصحفيين إلى تطبيق تيك توك لتغطية مجريات الحرب في أوكرانيا (رويترز)

لقد كان الغزو الروسي لأوكرانيا لحظة مهمّة للتطبيق لكسر بعض التوقعات المسبقة حول أشكال المحتوى التي يستوعبها، إذ لجأ العديد من صناع المحتوى والصحفيون في أوكرانيا، وغير أوكرانيا، للحديث عن الصراع وتوثيق الأحداث وروايتها، سواء كان ذلك في نقاط الاشتباك والقصف أو عند المعابر الحدودية أثناء تدفق اللاجئين. وبحسب رويترز، بدا ذلك سببًا مقنعًا لإدارة بي بي سي لإطلاق قنوات لها على المنصة ناطقة بالإنجليزية والروسية، للتصدي للأخبار المفبركة على تيك توك، رغم أن المؤسسة الإنجليزية العريقة اتخذت موقفًا عتيدًا مبكرًا من تيك توك فيما سبق، قبل أن تهتدي إلى قناعة، عملية، بأنه من العبث مقاومة إغراء النموّ الذي تعرضه تيك توك، حتى لو استلزم ذلك طرح الأسئلة الصعبة، حول شكل الأخبار الذي سيكون سائدًا بعد سنوات، في حقبة يبدو أن الكلمة الفصل فيها ستكون لهذا التطبيق. 

علاقة الناس مع الأخبار على السوشال ميديا معقّدة، والغالبية من المستطلعة آراءهم في تقرير رويترز يقولون إنهم يتعرضون لقدر مزعج من الأخبار على المنصات المختلفة، وأنهم يرغبون برؤية قدر أقل من الأخبار أثناء تصفح التطبيقات. الأرقام المتوفرة قادمة من دول في أوروبا وآسيا وأفريقيا والأمريكيتين، ليس من ضمنها أية دولة عربية، إلا أنه ليس ثمة ما يدعو للتحوّط من تصوّر تباين كبير بين آراء المستخدمين العرب، ولاسيما في ظل انتكاسة مشروع الربيع العربي والتحول الديمقراطي في العقد الماضي، وما خلقه ذلك من حالة إحباط واسعة، إضافة إلى شهرة تطبيق تيك توك بين المستخدمين اليافعين في مختلف الدول العربية، حيث تشكّل الفئة العمرية بين 16 إلى 25 عامًا أكثر من ثلث السكّان، وهي الفئة نفسها التي تشكّل أكثر من 40 بالمئة من مستخدمي المنصّة، التي بلغت إيراداتها حوالي 60 مليار دولار أمريكي في العام 2021.

كيف سيكون شكل الأخبار على تيك توك؟

لا بدّ من نقطة نظام هنا: النموّ السريع الذي يحرزه تيك توك، حتى على صعيد الأخبار، لا يعني أي تهديد بالنسبة إلى الصحافة التقليدية. في الواقع، يسخر أحد الكتاب المختصين بتيك توك، وهو كريس ستوكل-ووكر، مؤلف الكتاب المعروف "TikTok Boom"، من ذلك، ويقول إن الأخبار قدرُ البشر، وسيصلهم ولو كانوا في بروج محصّنة (لم يقل ذلك طبعًا، ولكنه قال شيئًا شبيهًا). وأشار كريس، محقًا، إلى إن الحديث عن تهديد منصّة رقمية للصحافة ليس إلا لغوًا ضروريًا يصبّ في قالب متوقّع من التعامل مع الظواهر الجديدة، وبدعنتها، والرغبة في التمسّك بالقديم المألوف، مشيرًا إلى أنّ الصحافة عاشت مع الراديو والتلفاز والإنترنت والسوشال ميديا، ولمّا تزل. 

لكن كريس يعترف بأن لتيك توك شأنًا فريدًا في الطرز الذي اختاره للمحتوى وتقديمه، وقد يكون أثره على الصحافة أكبر مما عداه وسبقه، تمامًا مثلما كان تأثيره على بقية الأشياء والمنصّات، سواء بطريقة عرض الفيديو على أكمل الشاشة بطريقة عمودية، أو في سرعة المقاطع وشكل اللغة المستخدمة ونوع وطبيعة المستخدمين وتوقعاتهم من التطبيق ومحتواه. لكن الحقيقة التي يصعب نكرانها هي أن "تيك توك هو الناس"، على حد تعبير كريس، وهم سدس البشريّة على الأقل، بواقع أكثر من مليار مستخدم نشط شهريًا، وسيكون من المحال على الشبكات الإعلامية أن تتحاشى هذا الواقع لوقت طويل. فالمستخدمون متواجدون في هذا المجلس، ومن يرغب بالحديث إليهم عليه أن يتفضّل ويدخل البيت من بابه، ويلتحق بهذا المجلس العالمي الأكبر حجمًا والأصغر عمرًا. وهنا يذكرنا كريس، في مقال له نشرته الغارديان البريطانية تعليقًا على تقرير "أوفكوم" المذكور أعلاه، بأن معدل أعمار مشاهدي بي بي سي (الأولى والثانية) يقترب من الستين، وأن محاولات الهيئة العديدة لاستبدال هذا الجمهور بالطرق التقليدية قد باءت بالفشل حتى اليوم، وهو فشل يسبب خسائر موجعة للشبكة، بتراجع جمهورها وانسحاب نجومها منها أمام إغراء الفرص التي يعد بها تيك توك.

لفهم الناس لا بدّ من فهم الطريقة التي يتواصلون بها، وفهم الوسط الذي عبره يجرون هذا التواصل

أخيرًا، لكي يفهم الصحفي الناس سيلزمه فهم الطريقة التي يتواصلون بها، وفهم الوسط الذي عبره يجرون هذا التواصل. وبالنظر إلى النموّ المطّرد لشبكة تيك توك عالميًا، فإنه من السليم أن نفترض استمرار تأثيره، بعدّة أشكال، على أنماط تعاطي الترفيه وصناعته، وربما في المستقبل القريب على طريقة تعاملنا مع المعلومات والأخبار والطريقة الأفضل لتلقّيها ومعالجتها وإعادة إنتاجها، وانعكاس ذلك كلّه في المحصّلة على نوع وشكل الأفكار المتداولة وعلى الخطاب والشأن العامّين.