06-سبتمبر-2020

لوحة لـ تمام عزام/ سوريا

قبل أن نكون منفيين لم نكن نعرف، على وجه الدقة، ماذا تعني تلك الحوارات والأفكار المهمة التي طرحها ميلان كونديرا في رواية "الجهل" على سبيل المثال. لم نكن نعرف ماذا تعني فكرة "العودة إلى البلد الأصلي"، والصراعات المعرفية والشعورية التي يعيشها المنفي لدى طرح فكرة "العودة".

في هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا، عرفنا، على وجه الدقة، ماذا يعني أن يكون الإنسان منفيًا، وماذا يعني "المنفى"

قرأنا وسمعنا كثيرًا كلمة ومفهوم "العودة" المرتبطة بعودة الفلسطينيين إلى أرضهم التي اقتلعهم منها الاحتلال الإسرائيلي، لكن ذلك كان ذا سياق مختلف وواضح لدرجة أننا كنا نتلقى تلك الفكرة بنوع من البداهة المعرفية والشعورية، إذ إن أرضهم احتلها غريب محتلّ بقوة السلاح وبدعم قوى كبرى متحكمة في العالم، ونشأنا على مختلف أنواع الصراع بين الفلسطينيين ومحتل أرضهم، بالإضافة إلى أن فكرة "العودة" ذاتها تلاشت رويدًا رويدًا مع الجيل من الفلسطينيين الذي ولد في الشتات ثم استقر وتعامل، وإن نسبيًا، مع المنفى على أنه "وطنه الأصلي"! كانت فكرة المنفى تبدو غريبة إلى حد كبير عن يومياتنا ومشاعرنا وأفكارنا، كانت تبدو كما لو أنها فكرة مجردة، وتشحن عواطفنا إنسانيًا مثلما تفعل القصيدة أو اللوحة أو الموسيقى.

اقرأ/ي أيضًا: محاولة في تعريف المنفى

قبل أن نكون منفيين قرأنا، كمثال أيضًا، قصيدة "طباق" التي كتبها محمود درويش وأهداها لإدوارد سعيد قراءة "شعرية"، بلاغية، غنائية، ومجازية أيضًا، قرأناها كما نقرأ عادة الشعر! من دون أية مشاعر خاصة مرتبطة بالمنفي، وقرأنا المقطع الذي يقول: "أنا من هناك/ وأنا من هنا/ ولست هناك/ ولست هنا/ لي اسمان يلتقيان ويفترقان/ ولي لغتان/ نسيت بأيهما كنت أحلم..." على أنه نوع من "اللعب اللغوي" الذي يلجأ إليه الشاعر عادة، لكننا، لم نقرؤه كمعنى عميق وموجع يشعر به المنفي ويعرفه، لم نكن نعرف ذلك التمزق في الشخصية وفي الهوية وفي اللغة وفي التعبير وفي المكان الذي يعيشه المنفي.

وفي السياق الفلسطيني ذاته قرأنا مذكرات "خارج المكان" لإدوارد سعيد، وحين أقمنا علاقة بين مذكراته والمنفي أقمناها انطلاقًا من أفكار سعيد ذاتها في "مابعد الكولونيالية" وذلك الصراع المرير الذي يخوضه كتّاب نظرية "مابعد الكولونيالية" لأجل "إزالة" آثار الاستعمار، ولأجل إعادة تعريف الغرب والشرق نفسيهما انطلاقًا من معرفة المراحل الكولونيالية ومابعدها... لكننا لم نقرأ "المنفى" ذاته بحساسية خاصة، وبمعرفة خاصة.

وبالطريقة ذاتها قرأنا الكثير عن المنفيين والمنافي والهجرة والمهاجرين وقصصهم التي بدت إلى حد كبير غريبة وتنطوي على فانتازيا من نوع ما.

هكذا إلى أن صرنا منفيين حيث شردتنا وهجّرتنا ونفتنا "سلطاتنا المحلية" إلى جهات الأرض الأربع. في هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا، عرفنا، على وجه الدقة، ماذا يعني أن يكون الإنسان منفيًا، وماذا يعني "المنفى". وفي هذه اللحظة عرفنا، إضافة إلى ذلك كله، ماذا يعني أن يقرأ المنفي الكتب ذاتها التي تتحدث عن المنفى والمنفي التي قرأها قبل أن يكون هو  الحدث وهو الموضوع! عرفنا، في القراءة الثانية، ماذا يعني ميلان كونديرا بفكرة "العودة" وعشنا تلك الصراعات النفسية والشعورية والفكرية المريرة والمعقدة التي يعيشها المنفي لدى تفكيره بـ"العودة"! وعرفنا أيضًا أن محمود درويش في قصيدته "طباق" التي خاطب فيها منفيًا كبيرًا: إدوارد سعيد، لم يكن "يتلاعب لغويًا"، بل كان منفيًا يخاطب منفيًا، وأن خطاب المنفى ذاته خطاب ممزق مكانيًا وزمانيًا وهوياتيًا ووجدانيًا... حينها تمامًا، ولدى قراءتنا "خارج المكان" مرة ثانية عرفنا أن إدوارد سعيد لم يكن فقط ينظّر في "ما بعد الكولونيالية"، بل كان يحكي سيرة ذاتية للمنفى، سيرته وسيرة المنفي معًا.

لم يكن إدوارد سعيد فقط ينظّر في ما بعد الكولونيالية، بل كان يحكي سيرة ذاتية للمنفى، سيرته وسيرة المنفي معًا

شتان بين أن يقرأ الإنسان تجارب الآخرين بوصفها مجرد تجارب آخرين، وبين أن يقرأها بوصفها تجارب آخرين وتجربته الشخصية في آن معًا، بوصفها تجربة منفى مشتركة. قد تكون مفيدة قراءة الكتب والتجارب مرتين، لكن كتب وتجارب المنفي خاصة لايمكن فهمها وعيشها كمشاعر أيضًا إلا بقراءتها مرتين: مرة قبل أن يكون القارئ منفيًا، ومرة حين يُنفى.

اقرأ/ي أيضًا: مدائح الاغتراب والمنفى وما شابهها من أكاذيب

كتابة المنفى خاصة كتابة محمولة على دم الكاتب ونبضات قلبه ومشاعره وأحاسيسه، كتابة لن تجد قارئًا حقيقيًا لها إلا إذا كان منفيًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المنفى.. كحياة مؤجّلة

عزمي بشارة في كتاب حواريّ.. في نفي المنفى