18-فبراير-2019

من الفيلم (مهرجان برلين)

اعتادت الأفلام السودانية التخلف الدائم عن الحضور العالمي، أي المنافسة على الغياب، وظلت حبيسة أحلام الجمهور والسينمائين معًا، حتى سحبها المخرج السوداني صهيب عبد الباري إلى منطقة الأضواء بشكل هائل، وقد منح العرب الجائزة الوحيدة في مهرجان برلين السينمائي لهذا العام 2019 وذلك بفيلمه "حديث عن الأشجار".

يعتبر المخرج السوداني صهيب عبد الباري صاحب تجربة مختلفة في صناعة أفلام ذات طابع شبابي

 "حديث عن الأشجار"، أو "Talking About Trees"، فاجأ الجمهور الذي تابع فعاليات "مهرجان برلين السينمائي" في دورته الـ69 ضمن قسم البانوراما والفيلم الوثائقي، محتشدًا بالحضور الثوري في الشارع السوداني، وهو الأمر الذي جعل المخرج صهيب عبد الباري يعتلي منصة المهرجان ليقدم بلاده في صورة جديدة تنشد التغيير، مستعيدًا مقاطع من قصيدة الراحل محجوب شريف "مليون سلام لشعبنا".

اقرأ/ي أيضًا: وثائقي "عن الآباء والأبناء".. أربعة تقسيم عشرة يساوي خمسة

يعتبر صهيب صاحب تجربة مختلفة في صناعة أفلام ذات طابع شبابي، تنتمي بالضرورة لهذا الجيل، كما أنه أيضًا يبدو مشغولًا بالفن نفسه كعنصرٍ ملهم في الحياة، وقد استهوته الكاميرا التي برع في تصويبها، إلى درجة استنطاق الطبيعة. فجاءت تجربته الآخيرة لتحصد جائزة عالمية، ومن قبل عرضت قناة "الجزيرة الوثائقية" له "أفلام السودان المنسية"، بجانب مشاركات آخرى في احتفالات مشابهة، منها مهرجان الجونة وفينيسيا السينمائيين.

"حديث عن الأشجار" حاول فيه عبد الباري اختصار رحلة طويلة من الرهق الفني في وطن لم تلتئم جراحه، وتحديدًا حكاية أربعة مخرجيين سودانيين، جمعهم الولع بالفن السابع، وبعد عودتهم للنبش في دور العرض القديمة من أجل الحصول على شاشة ملائمة للعرض، انتفضت في وجوههم المصاعب والتحديات.

تدور مذكرات المخرجين الأربعة المتقاعدين عن العمل بعد صداقة مديدة، إذ نهضوا لتأسيس صالة سينما في مدينة أم درمان، غرب الخرطوم، والتي تعرف بالعاصمة التاريخية، لكن الدولة المشار إليها بالسودان في العرض تتحكم فيها طبقة حاكمة متشددة ضد الفن عمومًا، وقامت بتدمير دور السينماء بوصفها ضربًا من الابتداع المرفوض، وقد تسببت هذه العوامل في اجهاض حلم الأصدقاء المتقاعدين قسرًا، لكن هذا الفعل لم يفل عزمهم، وتوجه المخرجون الأربعة: إبراهيم شداد، منار الحلو، سليمان محمد ابراهيم، الطيب مهدي.. الى تصوير مقاطع وثائقية قصيرة، والمواصلة في محاولة تأسيس نادي الفيلم السوداني، وبالتالي فإن الحديث مع الأشجار يتنكب جادة طريق لم يكن ممهداً بالأساس لهذا الفوز.

في ورشة فنية ببرلين مقابل أن ينتصر مشروعه السينمائي، حكى عبد الباري قصة تعرّفه على المخرجين الأربعة، وذلك من خلال التعرف على أفلامهم في قرية نائية، حين كانوا يصارعون الأقدار والطبيعية، وبعد عودته إلى فرنسا قرر العمل معهم، وجاء استدعاء نهوض التجربة السينمائية في بدايات القرن العشرين، وترديها أيضًا في نهايات ذات القرن، أي مع بداية بزوق عهد الرئيس عمر البشير وتطور حكمه بشكلٍ مأساوي، ورغم هذه التفاصيل القاسية قاومت المجموعة بالأمل حتى لا يموت الفن السينمائي في السودان مرة وإلى الأبد .

صهيب الباري بدا كما لو أنه رسول للضوء والصورة، أو بالمجمل بداية لمشروع ظل عصيًا على كبار المبدعين، وقد وصفه زميل دراسته الكاتب الصحفي عبد الناصر الحاج بالفنان المثقف، وكتب ناصر على جدار صفحته بالفيسبوك قائلًا: "صهيب عرفته عن كثب في سنوات الدراسة في مدينة الإسكندرية قبل أن يغادر إلى عاصمة الأضواء باريس في بديات الألفية الثالثة، فهو شاب معطون بالابداع، يتنفس الشعر، ويغرق في سُباتٍ عميق بين صفحات ميلان كونديرا وواسيني الأعرج وزوربا البرازيلي، ويصحو على أنغام مصطفى سيد أحمد ومارسيل خليفة".

"مهرجان برلين السينمائي" هذا العام جاء بمسحة نيلية طاغية، وحضور ضافٍ للمرأة السودانية 

عطفًا على ذلك، فهو سليل أسرة اتسمت بالأصالة والنبوغ، إذ أن شقيقه الأوحد محمد قسم الباري "مودك" سطر لأجله الشاعر الراحل عبدالرحيم أبو ذكرى، أجمل الرسائل حين مولده في موسكو، وختم عليها أبوذكرى بأن لا تُفتح هذه الرسالة إلا عندما يبلغ هذا الولد الخامسة عشر، وأضاف ناصر مخاطباً صهيب: "المجد لك والحب لك، فأنت كنت دومًا مُحصنًا لنا ضد الخذلان".

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Man to Man".. في البدء كان الإنسان أم القرد؟

"مهرجان برلين السينمائي" هذا العام جاء بمسحة نيلية طاغية، وحضور ضافٍ للمرأة السودانية من وراء عدسة المخرجة مروة الزين "خرطوم أوف سايد"، الذي جسد محاولة مجموعة من الشابات في السودان تشكيل أول فريق نسائي لكرة القدم ليلعب في كأس العالم للسيدات. كما تفرد المهرجان أيضًا بعرض مجموعة من الأفلام السودانية "رحلة صيد" للمخرج إبراهيم شداد، و"لكن الأرض تدور" للمخرج سليمان محمد إبراهيم، وأفلام "المحطة، الضريح، وأربعة مرات للأطفال" للمخرج الطيب مهدي.

اقرأ/ي أيضًا:

جاد الله جبارة.. ذكرى الكاميرا التي رسمت السودان

الفيل الأسود.. أوان الحنين للسينما السودانية