10-فبراير-2019

من الفيلم (IMDB)

قبل النوم بقليل يطرح الطفل "أسامة" (12) عامًا على شقيقيه السؤال التالي: أربع تفاحات، تقسيم عشرة، شو بيساوي؟ فيجيب الأخ الأول: خمسة. ثم ينقل أسامة السؤال لأخيه الثاني: وأنت؟ فيقول الأخير: خمسة. هنا يشرد أسامة للحظات ويقول لهما بلهجة مترددة: صح.

في وثائقي "الآباء والأبناء"، يخوض طلال ديركي مغامرة معايشة عائلة سورية، الأب فيها مقاتل وخبير ألغام في تنظيم جبهة النصرة

ورد هذا المشهد الذي سأعود إليه لاحقًا ضمن سياقه الدلالي في الفيلم الوثائقي السوري المرشح لجائزة الأوسكار "عن الآباء والأبناء"، وفيه يخوض المخرج طلال ديركي مغامرة خطيرة تقوده إلى معايشة عائلة سورية في ريف محافظة إدلب، وعلى فترات متقطعة وطويلة نسبيًا. تلك العائلة المؤلفة من الأب وهو مقاتل وخبير ألغام في تنظيم جبهة النصرة، وأطفاله الثمانية الذين حمل معظمهم أسماء قيادات تنظيم القاعدة: أسامة (ابن لادن)، أيمن (الظواهري)، محمد عمر (الملا عمر)... إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "كفر ناحوم".. أطفال أرض البؤس

إن الكتابة الفعلية لفيلم وثائقي من هذا النوع – كما أعتقد- تبدأ بعد الاكتفاء أو الانتهاء من التصوير، وبالتحديد في مرحلة المونتاج. وغالبًا ما يضع المخرج تحت مبضع التحرير لقطاتٍ يبلغ مجموعُها الزمني مئات الساعاتِ المصوّرة. وعلى الرغم من أن مشروع الفيلم يقوم عادة على فكرة محددة وخطة عمل، وسيناريو تصوّري مسبق، فإنه يبقى محكومًا بمجريات التصوير التي قد توصله أحيانًا إلى منعطفات غير محسوبة وغير مخطط لها سابقًا. لذلك فإن الطرح البصري لمشهد أو لقطة ما، يعادل جملة سردية في نص مكتوب أو فكرة عُبِّرَ عنها بمجموعة من الجمل المكتوبة. ومع أن شخصيات الفيلم الوثائقي لا تكون عادة مقيدة بحوار، كما هو الحال في السينما الروائية التي تعتمد على ممثلين يحفظون أدوارهم ويتحكم المخرج بحركاتهم إلى حد كبير، فإنه يمكننا - تجاوزًا- أن نحيل مسؤولية ما تقوله شخصيات الفيلم الوثائقي إلى المخرج كما لو كان هو كاتب حواراتها ومهندس أفكارها، وذلك بناءً على سلطته المطلقة في إدراج أو استبعاد هذه اللقطة أو تلك من حساباته النهائية والشكل النهائي للفيلم، وللأمانة هي إحالة من الصعب اعتمادها كقاعدة.

من هنا يمكن الحديث عن الكثير من الدلالات التي ساقها طلال ديركي سينمائيًا من خلال تلك الثنائية: الآباء والأبناء. الآباء الذين ظهروا في الفيلم كبارًا لم يكبروا بعد، كبارًا على قدر كبير من السذاجة الواضحة، يحللون واقع سياسات القوى الإقليمية والعالمية العظمى بكل حماقة، وبعبارات معلّبة وجاهزة. يصنفون ويفرزون المعارضة السورية والمعارضين، يتغزلون بقادة تنظيم القاعدة في أفغانستان بطريقة شِعرية رومانسية، وهنا يسرد أبو أسامة إجابة استخدمها ذات مرة عندما كان معتقلًا في سجون نظام الأسد: الحب الذي في داخلي لهذه الشخصيات (القاعدة، طالبان.. الخ)، لو يُلقى به على كوكب الأرض، لأطلقوا عليه اسم "كوكب الحب".

لقطة من الفيلم

أعتقد أن المخرج نجح في إحراج كل من يشاهد الفيلم من خلال جمعه للمتناقضات بحِرفية عالية، وبشكل لا يصدق أحيانًا، فكيف للمتلقي أن يستوعب حديثًا عن كوكب الحب وتنظيم القاعدة معًا؟ كيف له أن ينصت لعاطفة أب يتذكر رائحة ابنه التي باغتته عن بُعد أثناء اعتقاله في سيارة لأجهزة النظام الأسدي، فيقطع حديثه ويطلق النار على جندي ويوقعه جريحًا أو قتيلًا ربما؟ كيف لجهادي سلفي أن يتكئ ويدندن أغنية لسعدون الجابر؟

قد يتساءل المرء مستغربًا: أيّ النقيضين متأصّل أكثر في شخصية ذلك الأب السوري وما يمثله من شريحة الآن؟ أهو ذلك الإنسان البسيط، الطيب، ذو العاطفة الأبوية الفياضة؟ أم أنه المقاتل الجهادي الذي لا يرحم أسيرًا أو معتقلًا عنده؟ هل هو المسلم التقليدي الذي يلتقط منه ابنه الصغير شتائم تطال الذات الإلهية؟ أم المتشدد السلفي الذي ساهم في محو كل آثار الصوفية من المنطقة؟ وبات يتحدث مع رفاقه عن زواج بالجملة من الأخوات المؤمنات بنفس الطريقة التي يتحدث بها مربو الحمام "الحميماتية" عن طيورهم؟

هؤلاء الآباء يلقنون أطفالهم الصغار معادلات حياتية خاطئة تشبه العملية الرياضية البسيطة التي وردت على لسان الطفل أسامة، أربعة تقسيم عشرة يساوي خمسة، مع فارق مهم أنها ذات أثر مدمّر عليهم وعلى غيرهم، ولربما يحقّ لأبسط مُشاهِد لهذا الفيلم أن يخشى ليس على مصير جيل أسامة وأقرانه من الأطفال فقط، بل على مصير عدة أجيال تليه. الأمر الذي يقدم الفيلم على أنه محاولة لدقّ ناقوس الخطر ليس في سوريا وحسب، بل في الشرق الأوسط كله، وربما في العالم بأسره.

في مشهد آخر، يملأ الأب بركة ماء صغيرة لأبنائه الصغار لكي يسبحوا فيها. تبدو المياه التي أُفرغَتْ من أحد الصهاريج في قمة ثورانها، وكأنها أمواج متلاطمة على أحد الشواطئ. وبذات الطريقة يلقي الأطفال بأنفسهم في البركة الجهادية الضحلة الموجودة في رأس والدهم، بنفس الحماس، ونفس الشغف ونفس البراءة. وبكل بساطة ينقل لك المخرج إحساس الأطفال وكأنهم يسبحون في بحر واسع، لكنها في الحقيقة ليست سوى بركة صغيرة ذات أبعاد محدودة، وإمكانيات بائسة غير مبشرة على الإطلاق، البركة الجهادية التي أثبتت أنها لا تستطيع أن تقدم للعالم إلا العنف.

يَدخُل أطفال ديركي إلى قلب دبابة مدمّرة وصدئة وكأنها قبرهم المحتوم، ثم يُخرجهم منها وكأنها الرحم الجديد

وهو ما بدا واضحًا في: لقطة لمعلم المدرسة يضرب الطلاب في الباحة بحزام بنطاله. لقطة لقتال عنيف بين الأطفال. لقطة للصبية وهم يعنفون الفتيات الصغار ويرمونهم بالحجارة. لقطة للأب وهو يعاقب أطفاله ويضربهم بقوة، ولقطة أخرى له وهو يعلمهم استخدام السلاح. وهو ما يؤدي في النهاية إلى انضواء الصغار في معسكرات للتدريب على القتال، ليتحولوا بين ليلة وضحاها إلى أشخاص مدرَبين على استخدام الأسلحة الخفيفة، ومعتادين على تلقي الرصاص الحيّ على بعد سنتميترات قليلة من رؤوسهم وبين أرجلهم أثناء التدريب. ولم يكن ينقص كل هذا العجز الفكري والعاطفي والأخلاقي والديني إلا عجز جسدي تَمثّلَ بقطع قدم أبي أسامة بعد أن داس على أحد الألغام.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "واجب".. الصراع في اليوميات الفلسطينية

يَدخُل أطفال طلال ديركي إلى قلب دبابة مدمّرة وصدئة وكأنها قبرهم المحتوم، ثم يُخرجهم منها وكأنها الرحم الجديد الذي سيخرجون منه إلى العالم، ثم يلقي في حضن العالم فيلمه مثل كرة من النار، ومع ذلك فهو لم يغلق كل نوافذ الأمل، فعمد على إظهار شيء من التباين بين مساري الشقيقين الطفلين، في مشهد لأيمن وهو ينجح في حل عملية حسابية بسيطة في صفه، لكن يبقى جلّ خشيته أن يكون الحلّ المنشود غير متاح إلا على طريقة أسامة نفسه، عندما تورط وأطلق على شقيقه أيمن لغزًا أو "فزورة" تنتهي عادة بسؤال: ما هي؟ أو ما هو هذا الشيء؟ وقد بدت معقدة جدًا بالنسبة لشقيقه فيجيبه: لا أعرف! فيشرد أسامة ثانية ويقول: وأنا نسيت الحل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "أنا أولغا هيبناروڤا".. خيارات داعشية

"الخوذ البيضاء"... أبطال حقيقيون وأمل مستحيل