28-يونيو-2019

تصوير فني لفرقة موسيقة عراقية

إن تراث الأغاني العراقية يُمكّننا من وضع تصور فكري مبدئي عن العلاقة الفطرية بين الإنسان العراقي وأرضه، فالشاعر العراقي الريفي الذي يبدع هذه الأغاني إنما هو مخلوق عاطفي يقف من الطبيعة موقف المتأثر فيتجاوب ويتفاعل معها وينفعل لأحداثها، وتستجيب حواسه المرهفة لتقلبات الطبيعة الدائمة، ولذلك يكون التعبير الشعري والغنائي أول نتيجة لذلك التفاعل، وتلك الخاصية تجعل للأغاني العراقية ملامح خاصة بها تميزها إلى حد ما عن سواها من أغاني الوطن العربي، بحسب الأديبة نازك الملائكة في بحثها الصادر عام 1974 بعنوان "التجزيئية في المجتمع العربي"، فمن النهر الذي يجري في الأرض أو لا يجري، يشتق العراقي أغانيه وقصائده في دلالة واضحة على الارتباط الوثيق بين أحاسيسه وعواطفه وبين الأرض التي يعيش فيها.

صلة العراقي بالماء وثيقة، فالماء يكاد يكون النبع الأكبر الذي يفجّر الأغاني ويبعث الألحان والمعاني والعواطف

صلة العراقي بالماء وثيقة، فالماء يكاد يكون النبع الأكبر الذي يفجّر الأغاني ويبعث الألحان والمعاني والعواطف، حتى توشك أغاني الريف الريف العراقي أن تنعكس كلها حول العطش والارتواء ومظاهرهما كالأنهار والبرك والواحات والعطش والمطر والمياه والدموع مما يولّد الحزن. وبحسب الباحثة "لعل العراقي لا يغني ولا يبدع الا حين يحزن ويغص من الدموع والحرقة والإشتياق فتتكسر الآهات في صوته وكلماته".

اقرأ/ي أيضًا: ناظم الغزالي.. صوتٌ على جسر المسيّب

إذا كان النهر كريمًا جاءت الأغاني تقطر بالماء والخصوبة والاخضرار، وأما إذا كان الماء في النهر قليلًا أو جافًا فإن الأغاني تأتي حافلة بالعطش الحارق واليبوسة والجفاف. وإلقاء نظرة تحليلية على مضمون الأغاني العراقية يحيلنا الى أن للماء خاصية مميزة للأغاني الشعبية في العراق، ويمكن أن نتأمل ما يكمن خلفها من دلائل تعبر عن نفسية العراقي. كما لا تخلو أبيات الأغاني من فلسفة وأبعاد ونذكر هنا بعض الأغاني التي تتسم ببساطتها والتي راجت في العراق.

ما تروي العطشان.. يا شط عَسَنُك

محرمني شوف هواي. .ياكلها منك

والشط في لهجة العراق الدراجة هو النهر نفسه وليس شاطئه خلافًا لما في الفصحى حيث الشط يعني الشاطئ. في هذا الشطر من مقطع الأغنية يكمن المعنى الذي صاغه عاشق مجهول أحب فتاة تسكن في الضفة الثانية من النهر، ويشعر هذا العاشق أن الماء هو الذي يفصل بينه وبينها، فلا يجد متنفسًا يعبر به عن اشتياقه وضيقه إلا أن يدعو النهر بألا يروي ظمآنًا. ولعل هذا الدعاء العفوي مضحكًا وساذجًا، فماذا يضر النهر ألا يرتوي الذين يشربون من مائه؟

الجواب في الظاهر أن ذلك لا يضير النهر، فيكفي أي نهر أن يجري ويتفرع ويصب لكي يحقق غايته سواء روى العطاش أم لم. غير أن منطق هذا العاشق الريفي أعمق وأكثر ارتباطًا بالحياة لأنه يشعر –دون أن يدري- بأن هدف النهر وغايته في ان يكون معطاء، وأن يروي العطاش وهكذا تكون سعادة النهر كاملة إذا سقى وأعطى كل ما في وسعه أن يعطيه للشاربين. وتكتمل سعادة النهر فقط في حالة واحدة: إذا سقى العطشان ورواه.

ولذلك يدعو العاشق على النهر بأن يصبح ماؤه مثيرًا للعطش أكثر فأكثر، فلا يرتوي من يشرب منه أبدًا. فالعراقي العاشق يحاول أن ينتقم من النهر لأنه يفرق بينه وبين محبوبته التي تسكن في الضفة الثانية، فيدعو على النهر بألا يحقق غايته من وجوده فلا يقدر على أن يروي العطشانين.

ونحن إزاء أناس عطاش لا يرتوون ويبقون يتحرقون إلى الماء الذي هو رمز للحياة كلها. بينما في البيتين السابقين أصبح النهر رمزًا للعطش. وتشير الكاتبة نازك الملائكة إلى صورة لطيفة في بيتين لفتاة ريفية تمنت أن تكون فنجان قهوة في مقهى حتى إذا تناوله الحبيب انفجر الفنجان بالبكاء بين يديه.

كون انقلب فنجان.. بيد القهوجي

واوصل لحلق هواي.. وانتحب وابجي

والنخيل العطشان يصلح رمزًا عامًا للنفسية العراقية حين تبدع الشعر والغناء، والمقصود الفطرة العراقية التي لم يلوثها زيف المدنية. فالريفيون ينظمون الأغاني مدفوعين مثل دوافع النخلة المتعطشة التي ترسل جذورها في التربة بحثًا عن الماء والغذاء والارتواء.

العطش هو السمة الغالبة على هذه الأغاني، مع أن أرض العراق غزيرة بالمياه وفيها دجلة والفرات والشواطئ والأمواج والأسماك ومراسي الزوارق وغير ذلك من رموز مرتبطة بالماء الدافق. إن دجلة والفرات مقترنان لدى العاشقات من بنات الريف بحبيب ضائع تاه في جرف ما على طول النهرين الكبيرين فتنشد الفتاة البحث عنه وتصف إصرارها على أن تعثر عليه مهما كلفها ذلك حتى لو قلبت النهرين:

أرد أقلب الشطين.. دجلة والفرات

وانطر حبيبي اليوم.. من يا عقد فات

وأما السمك الذي يكثر في الأنهار العراقية فإن المحب العراقي يمنحه صفة المشاركة العاطفية ويجعله يبكي معه في ليالي الشوق التي يأرق فيها ولا يستطيع النوم:

وشلون أنام الليل.. وأنت على بالي

حتى السمك بالماي.. يبكي على حالي

وما أكثر الأغاني التي يشبه فيها العاشق نفسه بنبتة صغيرة غريبة زرعت على شاطئ النهر بين الجرف والماء، لتبقى منفردة مستوحشة. إن هذا المعنى يتكرر في أبيات كثيرة وبجمالية بسيطة:

بين الجرف والماي.. حنطه زرعوني

والبيتان التاليان تتحدث فيهما فتاة عاشقة عن الذبول الذي أصاب قلبها بعد أن حال الفراق بينها وبين من تحب، مشيرة الى عطشها واحتياجها شربة ماء. فالماء كاد يتدفق ويلمس الورود الذابلة حتى جاء والدها وأغلق الطاقة الصغيرة المفتوحة. ودموع الفتاة أغزر بكثير من الماء الذي تنعم به بقعة الأرض التي يزرعها والدها.

أصبحت روحي اليوم.. ذابل وردها

هدولي عبرة ماي.. والواشي سدها

والعطش الحقيقي الذي تشعر به فتاة تعيش في ريف قاحل، هذا العطش يرتوي من مرة واحدة ترى فيها الحبيب. ولذلك تقصد الفتاة السوق ولو دون أن يكون لها عمل فيه. وإنما غايتها أن تمر بحبيبها وتراه لتروي ظمآها حتى لو كانت لم تذق الماء منذ سبع سنين:

مالي شغل بالسوق.. مريت أشوفك

عطشانة سبع سنين.. أروى من أشوفك

وفي البيت التالي معنى السخرية من الوجع تتكرر في الأغاني العراقية. وكان العاشق وهو يجد نفسه محرومًا من الشرب، عطشان، يسلي نفسه بالصور والتشبيهات والإستهزاء من الواقع المرير الذي لا يستطيع تغييره.

نتقابل أني وياك.. بإبرة نحفر بير

كل شي الطلع بيه ماي.. ذاك الحكي يصير

إن هذين المحبين قد يئسا من إمكانية اللقاء والاجتماع الى درجة تجعلهما في محاولاتهم المتكررة لتحقيق ذلك أشبه بمن يحاول حفر بئر بالإبرة لعله يصل الماء إلى باطن الأرض، وذلك هو عين المستحيل. فكيف يمكن للمحبين أن يحفرا بئرًا بإبرة مهما كان الحفّار مخلصًا وصبورًا؟ وهكذا ينتهي المحبان الى أن يسخرا من موقفهما المضني ويعبران عما يحسانه من الألم. إنهما يحتاجان لكي يرتويا من العطش وليس معهما إلا إبرة، فما أصعب الارتواء؟

تحيلنا الأغاني العراقية إلى نفسية العراقي التي أصابها الحزن والحرمان والعطش الدائم

اقرأ/ي أيضًا: نصير شمّه يشرف على "أيام الموسيقى العربية" الثانية

وفي البحث عن الأغاني الحديثة نجد أغنية المطرب العراقي محمود أنور حيث يقول فيها:

والله ومحتاجك يا خي.. عندي متل الهوا والمي

تكثر الأناشيد الدينية واللطميات التي تعبر عن أهمية المياه في التدين الشعبي عند العراقيين، خاصة بسبب واقعة كربلاء التاريخية والتي أصبحت رمزًا عند معظم العراقيين وارتبطت بالعطش الذي أصاب إمام الشيعة الحسين بن علي وأتباعه.

ساقي العطاشى.. عماه عباس

كل هذا يحيلنا إلى النفسية العراقية العاطفية وإلى الشلل الروحي والحزن والحرمان والعطش الدائم الذي يحسه الفرد العراقي. وتبرز هذه الأغاني الروح العراقية فنجد قومًا يحرقهم قيظ الظهيرة فلا يجدون حاميًا منها فيحفرون بالإبرة في ظل غياب الفؤؤس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نادين الخالدي: نحن أيضًا شعوب تحبّ الطرب