20-ديسمبر-2020

لوحة لـ اسماعيل الرفاعي/ سوريا

ترتبط العزاءات جوهريًا بالعجز، عجز الكائن البشري عن مواجهة فداحة الواقع المعاش، فحين يواجه الفرد بالعجز، عجزه أمام تخلي الحبيب أو الصديق، عجزه إزاء امتهان كرامته الشخصية، كما عجزه قبالة الطابع الوجودي لكيانه البيولوجي المهدد بالزوال والتبدد؛ فإنه لا يجد أمامه من سبيل للتحايل على كل هذا القلق الوجودي الذي يعصف بروحه، سوى البحث عن مبررات أو عزاءات لعلّها تعينه في تحمل مرارة التحديات أوالخيبات، التي تقذفها في وجهه طبيعة التجربة الإنسانية.

قدّم التصور الأرواحي للعالم، القائل بوجود روح حية أو قوة سارية في قلب كل موجوداته، خطوةً متقدمة على طريق هزيمة الموت

إذا قدر للمرء أن يعثر على أقسى أنواع العجز، التي يمكن للكائن الإنساني أن يواجه بها، لما اهتدى إلى عجز أشد من العجز البشري حيال الموت. المرعب في الموت ليس في عدم القدرة على التكهن بموعد قدومه، أو بالطرق السرية التي يتعمد الولوج منها، كما ليس في كم الأحزان التي قد يثيرها، أو في عدم مبالاته بالعدالة الإجتماعية التي نعتقد على أنه الوحيد القادر على تحقيقها لنا، بل في حقيقته البسيطة القائمة في بسط سطوته على جميع الكائنات وإحالتها إلى عدم كلي.

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة الموت

في تصديه لسؤال: هل يمكن تجنب الموت؟ رد الوعي البشري بكافة تجلياته، السحرية والدينية والعقلية، بلا جازمة وما كان لتلك الـ"لا" البديهية أن تضيف إلى معرفتنا الوجودية به شيئا يذكر، لولا الـ"نعم" الباذخة تلك، المتضمنة في التأكيد البلاغي "نعم يمكن قهره على نحو كلي"، التي لا تمنح وعدًا بهزيمته وحسب، بل بجعله بوابة عبور لخلودنا الأبدي.

قدّم التصور الأرواحي للعالم، القائل بوجود روح حية أو قوة سارية في قلب كل موجوداته، خطوةً متقدمة على طريق هزيمة الموت. فلم يعد وجودنا الشخصي الخالد مرتبطًا ارتباطًا لا فكاك منه بأجسادنا أو أقمصتنا المعرضة للزوال البيولوجي، بل تحول تخلينا عنه بالذات إلى ممر إجباري لعبورنا إلى مستوى وجودي آخر، أقل ما يقال فيه إنه أبدي، مقدس، غير قابل للنقض أوالذوبان، الأمر الذي مهّد الأرضية الفكرية المناسبة لقهر الموت وخلق العزاء المناسب لتجرع مرارته.

ارتبط تاريخ العزاء البشري إزاء الموت بتاريخ التصورات العقائدية التي صيغت من أجل ترويضه وقهره. ففي الوقت الذي اضطر فيه إنسان المجتمعات الوثنية أن يقنع بنوع من العزاء المجرد، المكتفي بخلود الروح لا الجسد، بناء على تصور بدائي عن الروح وعلاقتها بمجمع الأرواح السماوي، الذي ظل يحصر مهمته بتسييرعالم الأفلاك العلوية. فإن إنسان جماعات الأسرار في الفترة الهيلينية نجح في دفع العزاء إلى مرتبة وجودية أخرى، إلى الدرجة التي جعل من الموت مجرد دعابة تافهة أمام خلود الروح وتنقلاتها من جسد، أو قميص، إلى آخر، أي كان نوع ذلك القميص الذي تحل فيه سواء كان قميصًا نباتيًا أو حيوانيًا أو إنسانيًا، كل ذلك دون أن ينسى ربطها بالحياة الأخلاقية للفرد، التي صار عليها وحده مهمة ترقية وجوده عبر تأمين إنتقالها السلس إلى كائن بشري آخر، أو تخفيضه عبر ترك روحه لتواجه مخاطر العيش في جسد كائن نباتي أو حيواني.

على النقيض من ذلك نعثر في سطور ملحمة جلجامش، السجل العقائدي لإنسان الحضارة السومرية على نوع جديد من العزاء، حيث صار بمقدور جلجامش أو من يمثله من النوع البشري، قهر الموت بالتعويل على نفسه بالذات لا على قوة قهرية خارجة عنه، كل ذلك عبر الأثر المادي أو الثقافي الذي سيسهم في خلقه طيلة حياته الفانية.

على نفس الخط، نجد العزاء اليهودي في نسخته التوراتية أقرب ما يكون للعزاء السومري في تعويله على الجانب الشخصي في الفرد، حيث العزاء في عدد الأفراد الذكور الذين أمكن للفرد الميت الحصول عليهم من صلبه مباشرة.

في التعامل معه كخط أو نسق نجد العزاء المسيحي كما لو كان انتكاسة عن الخط السومري، ذلك أنه يعاود الرجوع إلى الخط الأرواحي ذاته، إلا أن ما يجب التنبه له أن تلك العودة لم تكن نسخة باهتة عن أصل مقدس، بقدر ما كانت تصورًا ثوريًا، نجح إلى حد بعيد باستعادة الكائن البشري في وحدته الجسدية والروحية. فلم يعد الخلود أمرًا خاصًا بالجانب الروحي للفرد، بل امتد ليشمل جسده أيضًا، كل ذلك في تصور عقائدي يقوم على فكرة القيامة والإيمان بها "من آمن بي ولو مات فسيحيا".

الواضح في ذهن المسلم أن الحصول على الحياة الخالدة لا يتم عبر العمل الصالح فقط، بل عبر رحمة الله

لا يخرج العزاء في الإسلام عن الخط العام للعزاء في المسيحية، ذلك أن العزاء في كل منهما عزاء معلق على شرط واحد هو الإيمان، فبدون إيمان لا حياة أخرى ولا قيامة ولا عودة، وبدون إيمان مترافق بعمل أخلاقي صالح لا ضمان في جعل العودة أمرًا مستحبًا، إذا ثمة خيار آخر في تحولها إلى عودة شقية عبر مرورها ببوابة من بوابات الجحيم الإلهي.

اقرأ/ي أيضًا: "الموت الأسود" في أعمال كتاب ومؤرخي الشرق

العزاء في مواجهة الموت عبر طقس القيامة واضح في مخيلة المسلم، وما هو واضح في ذهنه أكثر أن الحصول على الحياة الخالدة لا يتم عبر العمل الصالح فقط، بل عبر رحمة الله. فإما أن تكون العودة أو الدخول إلى مملكة الله جزءًا أصيلًا من المكرمة الإلهية، بوصفها رحمة أو نعمة تمنح لصاحبها كنوع من الكرم الإلهي، لا كمكافئة على عمل أخلاقي مستحق، أو لا تكون. وهو الأمر الذي يظل المسلم يحرص عليه أشد الحرص، في تدبره لمعنى عبارة "الله يرحمه"، في كل مرة يهم بتأدية واجب العزاء في موت أحد من معارفه أو أحبابه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجسد الشرقي في منفاه الثاني

ندب الحسين ومرثية تموز التي لا تموت