01-أبريل-2020

لوحة "انتصار الموت" للفنان الهولندي بيتر بروغل الأكبر (متحف برادو – مدريد)

تعتبر راوية الطاعون للكاتب الفرنسي – الجزائري ألبير كامو التي نشرها عام 1947 واحدةً من بين عشرات الأعمال الأدبية العالمية التي تناولت الأوبئة كموضوع أساسي، مثل الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو الذي كتب رواية الديكاميرون، أو عمل التاجر الإنكليزي دانيال ديفو صاحب صحيفة عام الطاعون، وحتى في رواية العمى للبرتغالي خوسيه سارماغو الحائز على جائزة نوبل للآداب.

في تقرير طويل نشر عبر موقع ميدل أيست إي يتناول الكاتب محمد أبو سنية الأعمال التي تطرق فيها الكتاب والشعراء والمؤرخين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للأوبئة في مؤلفاتهم، على اعتبار أنه "لا يوجد" مكان أفضل من المنطقتين للكتابة عن الأوبئة، بسبب التقليد القديم المنتشر فيهما للكتابة عنها.

يرى أبو سنية في مقدمة تقريره أن الأعمال التي تحدثت عن الأوبئة في المنطقتين لم تكن "مجرد [أعمال] خيالية"، بل تجاوزت هذه الأعمال الفن الانطباعي لتضم في متنها إرشادات عن النظافة وكتب الرحلات والأحاديث، واعتمادهم على الأقوال والأفعال المنسوبة للنبي محمد لاستخدامها كإرشادات يومية، أو حتى في أعمال ابن أبي الدنيا الذي عاش في التاسع، وكتابات ابن حجر العسقلاني الإرشادية لمكافحة الأوبئة، كما ينظر اليوم في القرن الجاري لمنظمة الصحة العالمية وهيئات الإرشاد الخاصة.

ويجدر التنويه هنا لاعتمادنا في الاقتباسات الواردة في التقرير على النصوص الأصلية الصادرة باللغة العربية بدلًا من نقلها عن اللغة الإنجليزية حتى لا يكون هناك تضاربًا بسبب اختلاف المعنى في الترجمة الإنجليزية.


1-نازك الملائكة.. "في كلّ مكانٍ جسدٌ يندبُه محزونْ"

تصور قصيدة الكوليرا للشاعرة العراقية نازك الملائكة (1923-2007) أيام الموت والحزن والمعاناة التي حطمت مصر خلال الأشهر الأخيرة من عام 1947، بعد تفشي الوباء الذي ضرب البلاد بشدة، ويعتبر الوباء الأكبر من نوعه في مصر خلال القرن الماضي، مخلفًا أكثر من 10 آلاف حالة وفاة من أصل ما يزيد على 20.8 ألف حالة مسجلة حينها، حيثُ اتخذت إجراءات بعزل مصر عن دول العالم، وفرض قيود على السفر مع تشديد إجراءات العزل بين المصابين وباقي أفراد المجتمع.

تغطية وسائل الإعلام المصرية لتفشي وباء الكوليرا عام 1947 

تستحضر الملائكة في قصيدتها مشاهد حية لصور العربات المحملة بالجثث باستخدامها كلمات عامية في النص، وقد لاقت لغتها في النص ترحيب النقاد بسبب أسلوبها بالابتعاد عن القصيدة التقليدية التي فضلت عليها اللغة الحرة، ما سمح لوباء الكوليرا بالإعلان عن ولادة فصل جديد من الشعر العربي، وألهمت موجة جديدة من الشعر العرب لتجربة أشكال مختلفة من الشعر عُرفت باسم "الجيل الرائد".

تكتب الملائكة في قصيدتها عن الحياة في ظل الوباء حينها: "طلَع الفجرُ/ أصغِ إلى وقْع خُطَى الماشينْ/ في صمتِ الفجْر، أصِخْ، انظُرْ ركبَ الباكين/ عشرةُ أمواتٍ، عشرونًا/ لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا"، وتضيف مصورة مظاهر الموت التي اجتاحت البلاد: "في كلّ مكانٍ جسدٌ يندبُه محزونْ/ لا لحظةَ إخلادٍ لا صمْتْ"، إلى أن تكتب "حتّى حفّارُ القبر ثوى لم يبقَ نصيرْ/ الجامعُ ماتَ مؤذّنهُ/ الميّتُ من سيؤبّنهُ/ يا مصرُ شعوري مزّقهُ ما فعلَ الموتْ".

2- "الموت الأسود" في مذكرات القنصل البريطاني لطرابلس الغرب

ويشير أبو سنية إلى تركيز التصور الشعبي للأوبئة على تفشي الأمراض مثل الموت الأسود المعروف بـ"الطاعون الأسود أو الموت العظيم" في العصور الوسطى، أو تفشي الأنفلونزا ما بين عامي 1917 – 1920 التي أطلق عليها بالخطأ اسم "الإنفلونزا الإسبانية"، حيثُ يروي كتاب عشر أعوام في بلاط طرابلس للقنصل البريطاني في طرابلس الغرب ريتشارد تولي في عام 1785، قصة الطاعون الذي ضرب المدينة الساحلية منذ عام 1984، والذي كان مسؤولًا عن التوترات بين حكام المدينة وحكام البندقية في تلك الفترة.

يتحدث القنصل البريطاني في كتابه عن استخدام القش المحترق في المنازل للتطهير، ويكشف أن من بين الإجراءات التي كانت متبعة حينها ما بات يعرف حاليًا بـ"التباعد الاجتماعي"، ويرجح تولي أن الطاعون عندما وصل إلى مدينة صفاقس التونسية الساحلية التي يبلغ عدد سكانها نحو 30 ألف شخص قتل قرابة 15 ألفًا منهم في عام 1784.

الجنرال الفينسي أنجيلو إيمو يعطي الأوامر بقصف الميناء التونسي

يكتب تولي موضوحًا الإجراءات التي استخدمت خلال تلك الحقبة: "يقوم كل زائر بخدمة نفسه، ولا يسمح بدخوله إلا بحضور سيد المنزل، ولا يوجد خادم يقوم بخدمته أو يناوله كرسيًا، ويخدم نفسه بإعداد المرطبات، التي جيء بها إلى المدخل أو مقابل الحجرة"، ويمضي موضحًا في كتابه أن كافة التدابير التي اتخذت حينها كانت "لتمنع أي خادم من الاقتراب سهوًا من الشخص، ويُترك كل شي لمسه الزائر سواء كان كرسيًا جلس عليه أو أي شيء آخر بعد مغادرته ساعات".

ويتحدث تولي في مذكراته عن انتقال الوباء إلى المدينة الساحلية مشيرًا إلى أنه في الأسابيع القليلة التي استبقت يوم 29 نيسان/أبريل من عام 1785 "عبر بعض المراسلين الصحارى الممتدة من إلى هذه المدينة، ناقلين وباء الطاعون في طريقهم، حتى أصبح بالنتيجة بالريف المحيط بنا، وفي كل مكان ملوثًا"، وكانت صفاقس قد أصيبت بوباء الطاعون خلال عام 1622 ومرةً ثانية في عام 1688، إلا أن تفشي الوباء الذي جاء بعد ما يقارب قرن كان الأكثر فتكًا بالسكان، بقضائه على العديد من المسؤولين السياسيين والقضاة والشعراء، حيثُ كانت المدينة تعيش حربًا مع الفينسيين في تلك الحقبة.

3- الموت الأسود الذي قتل ابن الوردي

ويتطرق أبو سنية لكتابات المؤرخ السوري ابن الوردي المولود في مدينة معرة النمعان (1292 – 1349)، والتي تحدث فيها بشكل واضح عن الموت الأسود الذي اجتاح العالم في منتصف القرن الـ14، وكان ابن الوردي يقيم في مدينة حلب عندما وصل الطاعون في عام 1349، وأخذ انتشاره يدمر المدينة لأكثر من 15 عامًا كان يقضي بسببه قرابة ألف شخص يوميًا.

وأرخ ابن الوردي في أسفاره وصول الطاعون إلى المدينة بعدما أصاب بلاد "الهند والسند والفرس وشبه جزيرة القرم"، وقبل وفاته بيومين متأثرًا بإصابته بالطاعون كتب ابن الوردي: "ولستُ أخافُ طاعونًا كغيري/ فما هوَ غيرُ إحدى الحسنيينِ/ فإنْ متُّ استرحتُ من الأعادي/ وإنْ عشتُ اشتفتْ أذني وعيني".

خريطة العالم في القرن الـ 14 المحفوظة في مكتبة الكونغرس باسم ابن الوردي

4-وصف المتنبي لمرض الحمى في القرن العاشر

قام شاعر العصر العباسي أبي الطيب المتنبي (915 – 965) بتصوير مرض الحمى في قصيدته الزائر الليلي بسبب اشتدادها في المساء، وكان اعتماد المتنبي في القصيدة على الحواس والتجارب واضحًا، عندما صوًر الحمى بالعاشق الخجول الذي يتسلل إلى سريره ليلًا، حيثُ يمكن للقارئ الشعور بزيارة ضيف غير مرحب به، فقد كانت استعارات المتنبي في القصيدة دليل على اللغة الفريدة في نصه، والتي يرى أبو سينة أنها ظهرت عندما أشار "على الأقل لفكرة الحمى" التي لم تكن مشخصة طبيًا وقتها.

وكتب المتنبي في هجاء الحمى: "وزائرتي كأن بها حياء/ فليس تزورُ إلا في الظلام/ بذلت لها المطارف والحشايا/ فعافتها وباتت في عظامي/ يضيق الجلد عن نفسي وعنها/ فتوسعه بأنواع السقام/ إذا ما فارقتني فغسلتني/ كأنا عاكفان على حرام/ كأن الصبح يطردها فتجري/ مدامعها بأرعة سجام/ أراقب وقتها من غير شوق/ مراقبة المُشوق المُستهام".

5-الأوبئة في كتابات مؤرخي القرن التاسع

يمضي أبو سنية في تقريره بالإشارة إلى أن الحافظ ابن أبي الدنيا (823 – 849) الذي كان يقوم بدور الواعظ للخلفاء العباسيين كان قد كتب عن الموت الأسود في بغداد، حيثُ لم يكتب عن الوباء سوى القليل خلال القرون الأولى للتقويم الإسلامي الهجري، كما أنه لم يقم أي من المؤلفين بإعداد كتاب عن الموضوع يقترح تدابير يجب اتخاذها لتجنب العدوى.

فقد سمحت قدرة أبي الدنيا على وصوله للخلفاء العباسيين في ذلك الوقت بسبب مكانته العالية بأن يكون شبيهًا لمكتب منظمة الصحة العالمية في بغداد في وقتنا الراهن، وكذلك الأمر مع ابن حجر السعقلاني (1372 – 1449) الذي استشهد لاحقًا بأبي الدنيا في كتابه بذل الماعون في فضل الطاعون بعدما أرخ للموت الأسود الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية حينها.

ويلفت أبو سنية في نهاية تقريره إلى انتشار الطاعون في بلاد الشام مما تسبب بوفاة العديد من الصحابة، ويضيف بأن الطاعون قتل ما يقارب 25 ألف شخص في قرية عمواس الفلسطينية بين مدينتي القدس والرملة في عام 639، وعرف حينها بـ"وباء عمواس"، وكان من الصحابة الذي قضوا بالوباء أبي عبيدة ابن الجراح، معاذ بن جبل، وشرحبيل بن حسنة، الأمر الذي دفع العلماء المسلمين للكتابة عن الطاعون، والخطوات التي يجب اتباعها للوقابة من الإصابة، بعدما استعانوا بأحاديث النبي محمد التي تناقلها الصحابة، والتي يقول في واحد منها: "إذا سمعتم الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها، فلا تخرجوا فرارًا منه".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ألبير كامو حول كورونا.. المعاناة عشوائية وذلك أبسط ما يمكن قوله

الإنفلونزا الإسبانية.. حكاية "الوباء الشاحب" الذي عالجه العالم بالنسيان