26-مارس-2020

غرافيتي بيروت

تستعد دول العالم لاستقبال شهرٍ جديد برفقة فيروس كورونا، أسوأ أزمة صحّية تواجهُ البشرية، دون أي توقّعاتٍ بنهاية قريبة أو بارقة أمل تظهرُ في الأفق، وتُبشّر بنهاية كابوسٍ كان لافتًا خلال شهوره الأربعة، الحديث عن أنّ كبار السّن هم الأكثر عرضةً للإصابة بالوباء المُميت والوفاة بسببه، الأمر الذي خلق حالةً من القلق والخوف عند كبار السّن في العالم بشكلٍ عام، وفي القارّة الأوروبّية بشكلٍ خاص، لا سيما في إيطاليا التي بلغت نسبة السكّان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا فيها، ما معدّلهُ 23,3 %.

بعيدًا عن الوباء الذي صوَّر كاختصاصيٍّ في خطف أرواح كبار السّن، وفي ظلّ إجراءات الحجر المنزلي الذي بات الآن الشكل الأكثر حداثة من العزلة التي لم تعد مقصد فئاتٍ بعينها، تحضرنا هنا مسألة بدت لافتةً خلال السنوات الأخيرة، وهي اختيار الرواية الأوروبية أبطالها من فئة العجزة، وإزاحة الشابّ، نسبيًا، من المشهد لصالح العجوز الذي يبدو من خلال الروايات التي سوف نذكرها في هذه المقالة، مُنعزلًا تمامًا، وملتزمًا بنوعٍ آخر من الحجر المنزليّ.

العُزلة في رواية بوهوميل هرابال خيار شخصي بينما تُفرض على البشر فرضًا في رواية الكاتب الإسبانيّ خوليو ياماثاريس

من خلال تتبع مسارات حياة هانتا، بطل رواية "عزلة صاخبة جدًا" (منشورات المتوسط، 2017) ترجمة منير عليمي، للكاتب التشيكي بوهوميل هرابال، يُصبح من السهل على القارئ أن يصل إلى فكرة أنّ هذه الشخصية الإشكالية المتأرجحة بين عجوزٍ أبله أحيانًا، وحكيم في أحيانٍ أخرى بفعل الأفكار التي لا يُمكن، وكما يقول هانتا نفسه، معرفة ما إذا كانت أفكارًا ابتكرها بنفسه، أو وصلته عبر الكتب التي يقرأها؛ هي في الأساس شخصية منصرفة عن كلّ ما هو متعلّق بفلسفة البقاء، تلك التي يُصبح عندها لزامًا على الفرد تعزيز شروط الـ "أنا" وتدعيمها.

اقرأ/ي أيضًا: 4 روايات مترجمة عن الإيطالية

انصراف هانتا عن الفلسفة السابقة التي تُعزّز وجوده، قابلهُ انشغالًا دؤوبًا للوصول إلى الكيفية التي يستطيع من خلالها أن يتحلّل من ذاته، قبل أن يتحلّل من العالم الخارجي، ذلك الذي يرد في الرواية باعتباره أكثر الأشياء تجريدًا، فيما تحضر الذات باعتبارها أكثر الأشياء استغراقًا. ممّا يعني أنّ هانتا ضمن عزلته الصاخبة لم يكن يعيش حالة نفسية بعينها، لأنّ عزلته هذه، ومهما بدا العكس صحيحًا، هي في جوهرها غياب لكلّ ما يُمكن اعتباره حالة نفسية خاصّة. "كلّ ما هو جميل في السعادة هو أن تكون وحيدًا دون حاجتك إلى المجتمع. هم يشنّون حربًا من أجل معركة حاسمة. معركة من أجل اثبات الذات".

يقول هانتا إنّ شعوره بنفسه كان مسحوقًا، في إشارة إلى انصرافه عن مُحاولة فهمها إلى الدرجة التي تدفعهُ للشعور بها بهذا الشكل الذي وفّر له منفذًا تخفّف من خلاله من عبء تقديم صورة لطبيعة العالم من حوله، ذلك الذي تضرّر بشره، وكما هو حال هانتا، بسبب المتغيّرات السياسية التي استبدلت عالمًا قديمًا بآخر مهترئ دفع بالبشر إلى خوض تلك المعارك من أجل الذات، بينما جعل من عزلة هانتا وضعًا داخليًا مستمرًّا وغير مبرّر أيضًا، سمته الأبرز التقريب بين البشر والأشياء المادّية، وهنا يكمن سرّ علاقة هانتا بآلة سحق الكتب الهيدروليكية، تلك التي تُستبدل بواحدةٍ جديدة، يُدرك البطل العجوز أمامها أنّ شيئًا ما يتغيّر، وأنّ هناك شيئًا ما لن يعود كما كان عليه سابقًا.

إذا كانت العُزلة في رواية بوهوميل هرابال خيارًا شخصيًا بالنسبة إلى هانتا، بغض النظر عن الأسباب، فإنّها داخل رواية "المطر الأصفر" (المركز المصري العربي، 1995) ترجمة طلعت شاهين، للكاتب الإسبانيّ خوليو ياماثاريس تُفرض على البشر فرضًا، وبطريقةٍ لا تبدو عندها سلوكًا بشريًا أو وضعًا داخليًا مستمرًّا وليس بحاجة إلى التبرير، وإنّما حالة نفسية بحتة ترتبط بأحداثٍ وتفاصيل تعملُ على إعادة القارئ أو ردّه إليها، باعتبارها ليست عوامل نتجت عنها العُزلة وإنّما أشياء تكفّلت بتكوينها، لتبدو ضمن سياقات العمل منشغلةً بتبرير حضورها وتوغّلها داخل حياة البطل العجوز، بالهمس أحيانًا وبالصراخ أحيانًا أخرى، سعيًا منها لإثبات براءتها ممّا سيحلّ به.

تبدو رواية خوليو ياماثاريس "المطر الأصفر" مغموسة بالهزيمة البادية بشدّة على طبيعة حياة بطلها العجوز الذي راقب لسنواتٍ خلوَّ قريته من سكانها

يلتقي العجوز هانتا بالعجوز في رواية خوليو ياماثاريس في كونهما ضحايا تحوّلاتٍ سياسية، كما هو الحال بالنسبة إلى براغ، أو اقتصادية كما هو الحال شمال إسبانيا، بالإضافة إلى أنّهما ضحيتان للعُزلة، المصير الذي ينتهي إليه العجوز في القارّة الأوروبّية، وفقًا للسياقات المجتمعية المصوّرة داخل العملين. ولكنّهما في الوقت نفسه يختلفان في كون هانتا دخل إلى العُزلة هربًا من فضاءٍ بدا فجأةً وعلى وقع تحوّلات متسارعة، يُطالب الإنسان بالمزيد من الوعي والإدراك المؤذيين على أي حال، ممّا جعل من العُزلة بالنسبة إليه خيارًا جيّدًا لتجنّب الاصطدام بما هو خارج حدود عوالمه الشخصية، على عكس عجوز "المطر الأصفر" الذي اصطدم ضمنيًا بكلّ التفاصيل التي شكّلت عزلته، وفرضتها عليه.

اقرأ/ي أيضًا: عقول مريضة.. 7 روايات حول الثقوب السوداء للبشرية

تبدو رواية خوليو ياماثاريس مغموسة بالهزيمة البادية بشدّة على طبيعة حياة بطلها العجوز الذي راقب لسنواتٍ خلوَّ قريته من سكانها، بفعل التبدّلات الاقتصادية التي تدفع الفرد إلى مغادرة أرضه الأولى نحو أمكنةٍ أخرى من شأنها أن تُعزِّز شروط الـ "أنا" عنده. هنا، يُشير العجوز بأصابع الاتّهام، ضمنيًا، نحو الرأسمالية وتناقضاتها بصفتها مسؤولة عن الإمعان في تعميق عزلته ونبذه كفردٍ غير مُنجذب إلى التجديد العمرانيّ، أو البذخ الذي يحوّل أماكن يُفترض أنّها للعيش، كالمدن الكبيرة، إلى أخرى للعرض والطلب، بحشودٍ هائلة وعُزلة فادحة في آنٍ معًا، وذلك في الوقت الذي تنجح فيه على الطرف الآخر بجذب الآخرين في أماكن لا تُخطِّط للوصول إليها، كقرية العجوز التي خلت إلّا منه ومن زوجته، وطويت صفحتها بوفاتهما، على عكس المُدن التي ظلّت تنمو، دون أن يقرّ بشرها المعزولين داخل زحامها، بهزيمتهم الجليّة والفجّة.

تُثير رواية "الأحذية الإيطالية" (كلمة، 2017) ترجمة أيف كادوري وحازم عبيدو، للكاتب السويديّ هنينغ مانكل إشكاليةً مُتعلّقة بالأسئلة التالية: هل الرواية رديئة؟ وهل هي أدنى من مستوى الروايتين السابقتين؟ بصرف النظر عن السؤال الأوّل، فإنّ الإجابة على السؤال الثاني بالإيجاب، تقود القارئ إلى سؤالٍ آخر: بما تختلف الرواية عن سابقاتها؟ أو بشكلٍ أدقّ، بما يختلف بطلها العجوز عن أبطال الروايتين السابقتين؟

تبدأ الإجابة من المكان الذي انتهت عند تخومه رواية "المطر الأصفر"، سالكةً مسارًا عَكْسِيًّا هذه المرّة، من المدينة "الحديثة" باتّجاه الريف أو القرية، حيث يُمكن للفرد أن يعترف لنفسه بالهزيمة التي تلقّاها في الأماكن التي أنتجتها الحداثة، حيث كلّ شيء يمضي سريعًا ومُبهمًا، مخلّفًا في داخله حرمانًا تُقابله رَغَبَاتٌ تَضْطَرِب وتتشتّت قبل أو تولد، تمامًا كما هو حال فريدريك، بطل الرواية العجوز الذي يعيش وحيدًا في جزيرة شمال السويد، حيث يُعاني آثار حادثةٍ تأكلهُ من الداخل، وتحفرُ في وجدانه كلّما اشتدّ شعورهُ باليأس، دون أن تبدو العزلة التي يعيشها راسخةً أو متجذّرة، بقدر ما هي قشرة تشكّلت لتفصيل بينه وبين ماضيه الذي يتجدّد بين الفينة والأخرى، كما لو أنّه يحدث الآن.

خلافًا لشخصيات "عزلة صاخبة جدًا" و"المطر الأصفر"، بدا فريدريك في رواية مانكل مُفتقرًا إلى العُمق، بشكلٍ يجعل منه مجرّد شخصية من ورق، بينما كانت الشخصيات التي بناها هرابال وياماثاريس تظهرُ كبشرٍ من لحم ودم. لذا، يُمكن القول إنّ فريدريك، في أدقّ تعريف له، صَدَى للأيام المُعاشة والمُستهلكة، أو مرآةً للمكان الذي يعيش فيه، أكثر من كونه شخصية مستقلّة تمامًا. هكذا، يرسمُ مانكل عبره خريطةٍ بسيطة للتبدّلات الاجتماعية في السويد، مُشيرًا إلى خلخلة المسارات التي رسمتها الأنظمة الاجتماعية والسياسية، ويستشرف زلزلة أنماط العيش السائدة من خلال تصاعد حركة الهجرة العكسية، وإن كانت محدودة، من المدينة التي لم تعد بأي حال مكانًا مُغريًا للعيش، إلى الريف الذي يموت فيه كبار السنّ وحيدين، كما يرد في أحد مشاهد الرواية.  لَرُبَّمَا هنا تكمن أهمّية شخصية فريدريك، عدا عن أنّها أيضًا تَأْكِيدٌ جديد لتصدّي العجوز لأدوار البطولة في الرواية الأوربّية.

الروائي روبرت زيتالر وصل إلى روايته "حياة كاملة" حاملًا معادلة جديدة تُوازن بين الكتابة عن الطبيعة، والكتابة عن التحوّلات الداخلية لبطله

تشارك خوليو ياماثاريس وهنينغ مانكل الاستفاضة في الكتابة عن الطبيعة، بينما كان بوهوميل هرابال شحيحًا بفعل طبيعة المكان الذي دارت فيه أحداث "عزلة صاخبة جدًا"، القليلة على أي حال. ولكنّه، في المقابل، استفاض في الكتابة عن التحوّلات الداخلية لبطله هانتا، الأمر الذي أغفله مانكل، واشتغل عليه ياماثاريس بدرجاتٍ أقلّ من هرابال.

اقرأ/ي أيضًا: 4 روايات للمرأة وعنها

الروائي النمساوي روبرت زيتالر وصل إلى روايته "حياة كاملة" (دار التنوير، 2018) ترجمة ليندا حسين، حاملًا معادلة جديدة تُوازن بين الكتابة عن الطبيعة، والكتابة عن التحوّلات الداخلية لبطل الرواية، أندرياس ايغر الذي أدرك بمجرّد رؤيته فرق البناء والآلات التي تردّد صدى هدير محرّكاتها عميقًا في الوادي؛ أنّ المكان سيتحوّل إلى فردوس مفقود، لن يكون معنيًا بالبحث عنه، أو تغيير الواقع الجديد لقريته التي ستتوارى خلف هدير محرّكات آلات بناء سكّة الحديد والتلفريك، تلك التي دفعت به نحو عزلة أراد منها أن يتأقلم مع التحوّلات الجديدة دون أن يتماهى معها.

قد لا يبدو صائبًا القول إنّ الشخصية التي بناها زيتالر تتطابق تمامًا مع شخصية هانتا في رواية بوهوميل هرابال، ولكن من غير الصائب أيضًا الادّعاء بأنّها تختلف عنها تمامًا، فهناك ما يجمع هانتا بأندرياس ايغر، مثل انصرافهما الكلّي عن تعزيز شروط الـ "أنا" وتدعيم فردانيتهما، إمّا بفعل التحلّل من الذات، أو فكّ الارتباط بشكلٍ كامل بعوالمهما الخارجية، عدا عن عدم اكتراثهما بفلسفة البقاء وشروطها، وتجنّبهما خوض أي حرب الغاية منها إثبات الذات، مستفيدين من براغماتيتهما التي أتاحت لهما التأقلم مع الوقائع الجديدة دون أن يكونا جزءًا منها.

في العديد من الروايات الأوروبية الحديثة يكون مصير كبار السن هو العُزلة حتّى الموت

هكذا، آثر ايغر وهانتا من قبله أن تكون عزلتهما وضعًا داخليًا مستمرًّا، يُساعدهما في أخذ المزيد من المسافة بينهما وبين البشر، مقابل التقرّب أكثر من أشياء أخرى يستدلّان بها إلى وجودهما: الآلة الهيدروليكية والكتب عند هانتا، والطبيعة عند ايغر الذي أدرك أنّ جوهرها لن يتغيّر بتغيير معالم المكان، مُفضّلًا البقاء بجوارها بدلًا من الانصراف عنها، مُستعيدًا حياة بدأها وحيدًا، دون نسب وبصفته ابن زنا، وأنهاها بنفس الطريقة، وحيدًا على أعتاب مُحاولات جديدة أكثر حداثة لتجريده من نسبٍ آخر قائم على علاقته بالطبيعة والمكان.

اقرأ/ي أيضًا: أكثر 10 روايات مبيعًا في إسبانيا في 2018

وبين البداية والنهاية، لن يكون صعبًا على القارئ معرفة أنّ ايغر، لا سيما عند محاولاته قراءة ما يجري داخل قريته، قد شاخ فعليًا لحظة انطلاق هدير محرّكات الديزل التي جاءت من مدن شبيهة بتلك التي أغرت سكّان قرية بطل رواية "الموت الأصفر"، وهجرها فيما بعد السويديين نحو الريف في "الأحذية الإيطالية"، وانصرف عنها تمامًا في "عزلة صاخبة جدًا". ليكون مصير العجوز داخل هذا المربّع، العُزلة حتّى الموت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

3 روايات مصرية صارت أفلامًا

4 روايات عراقية جديدة