09-مارس-2022
ا

كاريكاتير بعنوان المغناطيس لـ أودو كيبلر/ أمريكا

تقدر الصحافة المالية العالمية أن الاحتياط النقدي الخارجي الروسي يناهز 630 مليار دولار، وقد جُمِّد كله بناء على العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا. وهذا الاحتياط هو بمثابة أصول وسندات سيادية وأوراق مالية مسجلة في قيود المصارف المركزية في العالم، كما في المصارف التوسطية. ومعظمها مسنود بالدولار. وكذلك حذت الشركات الخاصة العالمية حذو الحكومات فأغلقت مايكروسوفت ونتفلكس وفيزا وماستركارد وبوما وغيرها أعمالها التجارية في روسيا.

تجميد الأصول وانسحاب الشركات الكبرى وعلاماتها التجارية من الأسواق الروسية، هو نهاية عهد احتضان الرأسمال "الديمقراطي" لرأسمال الدول القمعية

تجميد هذه الأصول، كما أصول وموجودات رجال الأعمال الأوليغارشيين الروس، وانسحاب الشركات الكبرى وعلاماتها التجارية من الأسواق الروسية، هو، بمعنى ما، نهاية عهد احتضان الرأسمال "الديمقراطي" لرأسمال الدول القمعية وممثليها الأوليغارشيين في الأسواق العالمية. وهو احتضان نما بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، حيث فتح رأس المال الليبرالي مداه لاستيعاب رأس مال الدولة القمعية.

اقرأ/ي أيضًا: تكاثرنا كثيرًا والموتى الجدد لا يشبهون موتانا

وللحظة ما، بدا أن هذا الاستقبال هو استقبال أخ لأخيه العائد من الأسر. فالدول المنتصرة آنذاك ظنت أنها تستطيع جر روسيا المنهزمة ورأسمالها إلى تصورات العالم الديمقراطي الحر المنتصر، ورموزه ونتاجه التكنولوجي الخلاصي الاحتفالي، عبر فتح أبواب المؤسسات المشكلة للديمقراطية الرأسمالية. فبدأت المصارف والمؤسسات المالية مد الجسور وشبكات الدمج والتشبيك المالي والاستيعاب من خلال برامج رقابية وضرائبية فضفاضة.

ورافق هذا الانفتاح أيضا بناء وتمتين سوق استهلاكي عالمي للطاقة الروسية. كما اتبعت أنجيلا ميركل سياسة أوروبية تسعى إلى احتواء وتطمين النظام الروسي، فاعتمد الاتحاد الأوروبي على استهلاك الطاقة الروسية. (الاتحاد الأوروبي يستهلك الغاز الروسي بنسبة 41 بالمئة، ويستهلك ما نسبته 60 بالمئة من احتياجاته من البترول الخام الروسي).

 كان الظن أن عملية الاستيعاب هذه ستمكن شعوب هذه الدول من الإحساس بنجاعة هذا العالم الجديد المتطلع إلى الرخاء والسعادة. كما كان الظن أن إشراك الرأسمال الروسي في شبكة المصالح الاستثمارية العالمية هو عامل أمان وتأكيد أن المصالح باتت متشابكة ومتينة، وبالتالي هي الآن اقوى من أن تعيدها النزاعات إلى نقطة اندلاع الحروب.

وكان الرأسمال الليبرالي ومؤسساته ومشرعيه قد استندوا في هذا الانفتاح إلى فلسفة اقتصاد السوق المفتوح، وحرية نقل الأموال، وخصوبة ورحابة الأسواق المالية والعقارية، وابتعاد الدولة عن التدخل في ضبط هذه الأسواق. وفي هذا كانت الليبرالية تحلق بجناحها الليبرتاري الذي يرى في الملكية وصيانتها، وفي الربح وتراكمه، هدفًا مقدسًا يجب حمايته وإتاحته بقوة وثبات، وفي هذا التحالف انتفخت قرب المؤسسات المالية برأسمال هجين متحالف على سنة التكاثر. فباتت محركات الأسواق المالية والمصارف تسّير بمال أوليغارشي وآخر ليبرالي دون أي شبهة كبرى، أو تفاوت أدائي، أو عطب تشغيلي، أو تنافر بين المكونين.

رأس المال الربحي لم يعد نتاجًا تجاريًا مستقلًا تحكمه وتصونه آلية السوق، وحرية حركة الأموال، ومبدأ الثقة والتحكيم المختص، وهي مبادئ مؤسسة الرأسمالية الليبرالية

غير أن ما فعلته الدول الغربية بتجميد احتياطات البنك المركزي الروسي من الدولار في مصارفها المركزية أو في مصارف خاصة توسطية، والتضييق على المصارف والشركات المالية بمنعها من التداولات المالية عبر شبكة سويفت، يعني أن هذه الدول لم تعد تعترف بمبدأ المساواة في السيادة مع دولة عظمى كروسيا، وتنقض حقها في ممتلكاتها. وفي هذا مؤشر بالغ الأهمية إلى أن رأس المال الربحي لم يعد نتاجًا تجاريًا مستقلًا تحكمه وتصونه آلية السوق، وحرية حركة الأموال، ومبدأ الثقة والتحكيم المختص، وهي مبادئ مؤسسة الرأسمالية الليبرالية التي رفعتها في العقود الثلاثة الماضية.

اقرأ/ي أيضًا: في هجاء الأمم

 فهذا القرار يؤشر إلى أن رأس المال وتراكمه هو وجهة نظر سياسية واجتماعية. بمعنى آخر إذا كان لديك مبلغ وفير من المال محفوظ في النظام العالمي فأنت فعليًا لست حرًا في التصرف فيه، إلا إذا وافقت الدول الغربية على ذلك، دون الحاجة للعودة إلى القضاء المالي. وهذا يؤشر من جهة أخرى، أن الدولار لن يبقى في المستقبل وحدة القياس الموثوقة لسلم القيم المالي العالمي ولحفظ الحقوق في التملك. طبعًا، هذا الإجراء، بخطورته، مؤشر على خطورة ما قامت به روسيا في أوكرانيا، لتدفع الغرب بالتضحية بأحد أعمدة فلسفته القيمية، وإعطاء مسوغ لدول كروسيا والصين لبناء نظام مالي رديف، وإكمال بناء نظام مدفوعات مواز لسويفت، كانتا قد بدأتا بناءه منذ عدة سنوات، مع فتح المجال لانجرار دول أخرى والانضمام إليهما، إذا ما تصلب عود نظامهما الجديد وصمد.

وهذا بالتالي يعني أن النظام العالمي وصل إلى نقطة سيستمية من الحمولة الزائدة، وتخطى نقطة التوازن الى حالة من الأنتروبي والاضطراب التام. وبهذا يمكننا القول إن الحرب هي حرب في المبنى الواحد. حرب بين الخلايا العصبية المشكلة للعقل الرأسمالي وجسده الحربي.

غير أن هذه الحرب التي تبدو واقعية في راهنيتها وتستطيع تبث الرعب في العالم، لا تنتج وقائع يمكن قراءتها أو بناء صورة واضحة لمستقبلها على غرار حرب العراق مثالًا. تبدو الصور الآتية من أرض المعركة شبيهة بصور من الماضي ومن تصورات نعرفها من الوثائقيات وكتب التأريخ والروايات وأدبيات البشرية في التاريخ الحديث، ولكنها صور لا تستقر على سمت خلاصي. صور تعيد المأساة السورية إلى الذاكرة: ليس مضمونًا إن ضحيت أن تحيا. حرب تنهش في الجسد الحديث المؤثر وفي عضمه ولحمه ولا يمكن توقع مآلاتها إلا على شكل جثث ودمار واستحالة انتصار..

لن يبقى الدولار في المستقبل وحدة القياس الموثوقة لسلم القيم المالي العالمي ولحفظ الحقوق في التملك

فالحروب في الثلاثين سنة الماضية كانت متوقعة النتائج سلفًا. ولكن هذه الحرب تبدو كأنها حرب التمظهر الافتراضي التي تفيض إلى الواقع. فبوتين بنى صورته الكوزميتيكية كمنتج ليبيدينالي عسكري استخباراتي، نصف عار على صهوة حصان، ووجهه منتفخ من عمليات التجميل. وهو بكل هذا أظهر نفسه كمنتوج للمؤسسة الرأسمالية وكرمز استهلاكي، يتشارك المنصات والشبكات الاجتماعية والصحف والأخبار مع كيم كارداشيان ومؤخرتها التي أوقفت الإنترنت منذ مدة، ولكنه اليوم يُوقف العالم أمام الخيار النووي ككتلة شهوانية تضمر الغضب، كما رسمته جريدة شارلي إبدو الكارتونية الساخرة.

اقرأ/ي أيضًا: العقوبات الرياضيّة على موسكو.. للعجز فنونه

والحال فإن بتر الساق الأوليغارشية لمنظومة رأس المال المتوحد منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، هو عودة إلى نوع من تناقضات ثنائية حداثية. وهو إشعار أن البشرية لم تصل يومًا لتكون حداثية بشكل تام. فعلى غرار ثنائيات أخرى حركت العالم في تناقضاتها، كموت الله ووجود السلطة الدينية في آن، هناك افتخار البشر بانتصارهم على الطبيعة وترويضها، متوازيًا مع الخوف المحدق من تغيرات المناخ وانتشار الأوبئة والتلوث. وفي هذا، لا تبدو الحرب الروسية خارج هذه التناقضات الناظمة لحياتنا الحديثة، فلم تكن خسارة الاتحاد السوفييتي خسارة ناجزة وتامة لتمنع روسيا عن إتيان ما تقوم به. ولن يكون فصل رأس المال الأوليغارشي عن المنظومة المالية العالمية، والموت والدمار الظاهر في الراهن والمرتسم في الأفق القريب والبعيد استثناء ونهاية.

الوضع أشبه بمتابعة ولادة في غرفة النوم دون معرفة جنس المولود، ولا توقع ملامحه مع طغيان صورة متخيلة لهذا التوقع عن مسخ في المخاض. مسخ يشبه البشرية الحديثة بتناقضاتها. وعليه هذه الحرب بالذات، بخلاف معظم الحروب التي عشناها، هي حرب تفهرس الوقت، تجعله آنيًا لا مستقبليًا. بمعنى آخر، كانت الحرب العالمية الثانية تحمل وعودًا للبشرية بخلاص تام في المعسكرين المتصارعين وهكذا كانت الحرب الباردة.

كانت الأفكار الخلاصية تقود الصراع. غير أن بوتين لم يهاجم أوكرانيا وفي يده تصورات للبشرية عن مستقبلها. بل إن تهديده النووي هو اعتراض يائس من داخل الفكرة الرأسمالية، اعتراض يمثل وعيًا ذاتيًا لقدرة البطش بالمحيط، كانعكاس لتعامل أمريكي نسبي مع قوته، ولدماثة الأوروبيين في التعاطي مع ثقل حجمه، عبر محاولة استيعابه وصحبه الأوليغارشيين في النظام العالمي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صورة بحاجة إلى ترميم

أوكرانيا: عن الاعتداء على الحياة التي تستحق العزاء