09-مارس-2022
الاستعمار الاستيطاني

طلاء أحمر على لوحة القنصلية الروسية في مونتريال (Getty)

أنا هنا أستقبل الموتى. بعد ذلك الموت الأخير، هنا حياة أخرى، لا نعرفها عن بعد، ولعلّها ولادة جديدة. يدخل تلاميذي إلى الصف تباعًا، من دول تصنّف نامية. في وجوههم خارطة الانهزامات كلّها.. هؤلاء البشر! بألوانٍ تتموّج ما بين الحنطيّة والدّاكنة.. يا لتعاسة تلك البشرة السمراء وتلك السوداء. في وجوههم أتساءل: أيٌّ من أبناء آدم كان يحمل هذه الجينات؟ أكان القاتل أم القتيل؟ أم الأصل؟ وبعد ذلك حصل التطوّر. يدخل شارلز داروين بينهم في تلك اللحظات الأولى من الصبّاح ولعلّه يعيد صياغة اكتشافاته العلميّة! إنها ولادة جديدة.

سيصل الأوروبيّون تباعًا إلى القارّة الشماليّة وفي أقبية سفنهم زنازين وسلاسل ضخمة تجرّ أبناء القارّة السوداء في سلسلة عملاقة

هكذا ظنّ الأوروبي الأوّل الذي عبر المحيط الكبير إلى الشمال الأمريكي. يقف جون وينثروب أمام حشد من المستوطنين الجدد على متن السفينة أربيلا في عام 1630 وقد رست في خليج ماساتشوستس. إنها بريطانيا الجديدة.. يستعين بالكتاب المقدّس وترتفع به الأرض ربما، وهو يشير إلى عظمة العالم الجديد، ويعظ "اللّاجئين" الجدد، مذكرًا إياهم، بعدَ فرصة الولادة الثانية هذه، بأهميّة دورهم. وبشيءٍ من التّحذير أو ربّما التهديد والوعيد بعبارات وصوَر مقدّسة، يختصر الحلم الأميركي في مخاضه ذاك، ومشروع بلاد العمّ سام بثلاث كلمات كمدينةٍ على تلّ "a city upon a hill". وكل العيون عليها، أو بمعنى آخر: "إيّاكم والفشل".

اقرأ/ي أيضًا: في هجاء الأمم

المحامي الإنجليزيّ ومؤسّس ثاني أكبر مستعمرة في القارّة الشماليّة بعد مستعمرة بليموث لن يكون آخر أميركي "جديد" يستعين بكلمات الكتاب المقدّس وعبارة "city upon a hill" في تاريخ السياسة الأمريكيّة. في عام 1961 سيردّد جون كندي العبارة نفسها تأكيدًا على أهمية النّموذج الأمريكيّ عالميًّا وعلى كافة الأصعدة.. كذلك سيفعل رونالد ريغان في العام 1980، ثم باراك أوباما في العام 2006. وغيرهم كثُر ممّن لم يحالفهم الحظّ بالوصول الى سدّة الرّئاسة الأمريكية.

بعد فترةٍ وجيزةٍ على وصوله إلى New England مع أتباعه من البروتستانت الإنجليز (البيوريتانز) سيتضاءل عدد السكاّن الأصليين ويضمحلّ تقريبًا. ويروي التاريخ الأمريكي مبرّرًا، بأن مقاومة الشّعب الأصليّ في نيو إنجلاند كانت ضعيفة. وسيصل الأوروبيّون تباعًا إلى القارّة الشماليّة وفي أقبية سفنهم زنازين وسلاسل ضخمة تجرّ أبناء القارّة السوداء في سلسلة عملاقة، طولها وعرضها يمتدّان على مدار قرون عدّة.

كحبّة الفول التي وصلت السّماء. أيتها السماء: أين العدالة أو بعضها؟ حسنًا لا عدالة على الأرض، ولا حتى في القارّة الشمالية أرض البداية الجديدة. أسال قريبتي "القريبة إلى الله" لما كلّ هذا الظلم الذي يقع على القارّة السّوداء؟ فتقول: "لله في خلقه شؤون". وأصرّ عليها بأسئلةٍ محرجةٍ: "أيكون حظّ الرّجل الأسود سيئًا في الدنيا وكذلك في الآخرة؟" فتجيبني بتجهّم: "الله يعلم ما لا تعلمون".

ويحدّث وينثروب تلاميذه المستعمرين عن هيكليّة كنيستهم الجديدة في أرض "الميعاد" هذه، إذ لا بدّ من ميعاد للأرض الجديدة، ولا بدّ من مباركة إلهيّة. يخبرهم أن الله خلق الفقير والغنيّ وذلك نظام إلهي. يا للرأسمالية المتجلببة بثوب الدين. إنّه الأوروبي المتحضّر نسبيًا بوجهه الأبيض وشعره الأشقر وعينيه الملوّنة.

أين العدالة أو بعضها؟ حسنًا لا عدالة على الأرض، ولا حتى في القارّة الشمالية، أرض البداية الجديدة

مؤخّرًا صار يطالعني وجه وينثروب بشكلٍ يومي. وأتذكّر أنني أنا أيضًا ما كنت وصلت إلى هنا لولاه وأصحابه من المستعمرين. وأتذكّر إبادة شعوب كثيرة على أرض الوعد هذه. وأسأل: هل أنا شريكة في تلك الجريمة؟ ويوم ناقشت صديقتي الكنديّة عن حقّ الفلسطينيّ في أرضه، وصوّرتُ لها سيناريو أن يستولي أحدهم فجأة على بيتها، أجابتني بكثير من الواقعيّة وبعض السّخرية: إننا هنا، أنا وهي، لأنّ من سبقنا استولى على أرض أحدهم. حسنًا.. كلّنا بشكل ما مسؤولون عن مجريات التاريخ. وإذا ما كنتُ الضحيّة اليوم فأنا على الأرجح أحد المستفيدين بطريقةٍ أو بأخرى. فما اقتنائي للكثير من الأزياء والأحذية وتذاكر السفر وحجوزات الفنادق إلا رفاهيّة على حساب حرمان أحدهم. لكنّنا لا ننتبه. تكاثرنا كثيرًا، وصرنا لا ننتبه. وتكاثرت حروبنا، ومعها ألبومات الصّور، وصرنا لا نميّز ألوان الصور. لشد ما جملّناها، فصارت مجلّدة بألوانٍ شفافة تكاد تختفي خلفها ألواننا. صور الفلتر والحقيقة المخفيّة. كأنها "اللاشفافية" كلها وقد صارت ملموسة ومرئية.

اقرأ/ي أيضًا: العقوبات الرياضيّة على موسكو.. للعجز فنونه

ومن صور اليوم ثمة حرب مشتعلة. والجبهة أوروبية. كأنمّا قبور القرن العشرين لم تغلق بعد. الحرب مشتعلة، وأكذب لو قلت إنّني أتابع أخبارها. وأكذب لو قلت إن صور موتاها تلاحقني. لم أحفظ وجوههم. أقلّب ألبوم صورهم بسرعة. لا يشبهون موتانا. يقف رئيسهم بكل ديموقراطية من دولته العلمانيّة يناشد أهل ديانته في المعمورة. أيا أوروبا كيف هكذا تتحايلين على أفكارك؟ ويقف فوقه في السّماء وريث مجانين أوروبا الذين قضوا إما قتلًا أو انتحارًا. يخطف أنفاس الكون، ويقبض على أرواح المساكين من البشر. "نحن بشر عاديون" قال لي أبي منذ أيام. وقلت له ربما لو تيسّر لنا الوصول إلى السّلطة لما عدنا عاديّين. فمن هو المستبدّ فينا؟ في خلايا أيّ طفل رضيعٍ ينام؟ كلّنا شركاء في الجريمة: القاتل والمقتول في النار. وحين سألت مسؤول قسم تعليم اللّغة الإنجليزيّة كلغةٍ ثانية في جامعتي عن فرص العمل في هذا المجال، أجابني إنها كثيرة، طالما أن هنالك حروب مستمرة على هذه الأرض.

يقف جون وينثروب قبالة السّواحل الأمريكيَة اليوم بشبحه، وبقايا بقاياه يلوّح للقادمين الجدد من أوروبا، ويقوم بفرزهم: أبيض/ أسود. كلهم أموات العالم القديم المشاغب، وسنعلّمهم أشياء جديدة. يعلن ساخرًا ربّما: مواطنون جدد.

بعد عشرين عامًا لي في كندا، أنا كذلك مواطنة جديدة، وأحمل كل يوم رزمة امتيازاتي التي تعيش معي في فقاعتي الكبيرة، الكبيرة جدًا، في طريقي إلى صف الأموات المتحدرين من أمم تحتضر.. ألتقي يوميًا بهم، وأتذكر امتيازاتي. يعترضون طريقي أحيانًا، وقد ألعنهم، أو أغضب وأخاف منهم. وأحيانًا أشفق عليهم. مشرّدو مدينتي سكّان برد الشتاء القارص والطرقات البيضاء. هؤلاء المقاومون الشّقر والسّمر والسّود، المتحدرون من سلالات عدّة، المتكوّمون على أنفسهم عظامًا. تمرّ عل جلدهم الهشّ الفصول فتوشمها بنوبة حرّ أو قرصة جليد. داؤهم خلل ذهني وسوء حظّ من نظام لا يستوعبهم، أو عائلة تخلّت عنهم. نخاف منهم، تضعهم الحكومات المتعاقبة ضمن برامج انتخاباتها، كأنهم ضرورة في هيكلية مجتمعاتنا، مثل أغنياء وفقراء الله في خطاب وينثروب.

يقف جون وينثروب قبالة السّواحل الأمريكيَة اليوم بشبحه، وبقايا بقاياه يلوّح للقادمين الجدد من أوروبا، ويقوم بفرزهم: أبيض/ أسود

اقرأ/ي أيضًا: صورة بحاجة إلى ترميم

سأنتخب رئيس البلدية المقبل الذي يعدني في حملته أن يجد حلًا لهم، كي يسترجع وسط البلد في مدينته رفاهية أسواقه ومطاعمه التي تناسب ذوقنا المرهف. وعد يتكرر كل أربعة أعوام. لدينا من الموت نصيب إذًا هنا. هل يراهم تلامذتي في طريقهم إلى الصف أيضًا؟ أمواتي الجدد؟ أنا هنا أستقبل الموتى، ونموت معًا يومًا ما حسب تقاليد هذه البلاد. جنّ جنون زوجة عمي حين اكتشفت، وهي جديدة هنا، بأن موتى المسلمين في كندا يُدفنون داخل التابوت. إنها أحكام هذه البلاد خوفًا من طوفان الجثث في المقابر حين تمطر السماء. نعم نحن نموت هنا وفقَ القوانين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيان داغاتا بوصفه دعوة للحرب

أوكرانيا: عن الاعتداء على الحياة التي تستحق العزاء