17-مارس-2020

بوتين يضع إكليلًا من الورد على ضريح الجندي المجهول في يوم حماة الوطن في 23 شباط/فبراير الماضي (Getty)

منذ إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقترح التعديلات الدستورية الذي يتيح بقائه نظريًا في الحكم بصلاحيات واسعة منذ كانون الثاني/يناير الماضي، كان السؤال الوحيد المتداول في مصنع القرار السياسي الروسي حول الشخصية التي ستخلف بوتين في الحكم، وتسمح بالحفاظ على مصالح الأوليغاريشية الروسية، لكن هذا الغموض الذي كان يحيط بمستقبل الرئاسة بدده بوتين بتوقيعه مشروع تعديل دستوري يسمح له البقاء في الحكم لمدة قد تصل لـ16 عامًا أخرى.

الغموض الذي كان يحيط بمستقبل الرئاسة بدده بوتين بتوقيعه مشروع تعديل دستوري يسمح له البقاء في الحكم لمدة قد تصل لـ16 عامًا أخرى

بوتين في الكرملين حتى عام 2036

مشروع التعديل الدستوري الذي وقعه بوتين (67 عامًا) يوم الثلاثاء الماضي، ووافقت عليه المحكمة الدستورية في وقت سابق من يوم الإثنين الماضي، أجمع كافة المحللون الغربيون على أنه سيتيح له البقاء نظريًا حتى عام 2036، بعدما تضمن أحد بنوده تصفير عدد الساعات التي قضاها زعيمًا للكرملين، ويسمح بترشحه لولاية خامسة بعد انتهاء فترة ولايته الرابعة في عام 2024.

اقرأ/ي أيضًا: تعديلات على الدستور الروسي.. خيارات بوتين المحدودة لتعزيز نفوذه

وكان البرلمان الروسي (مجلس الدوما) قد وافق وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي على مشروع التعديل الدستوري المرتبط بتصفير عداد ولايات بوتين السابقة، وصادق 380 نائبًا على مشروع التعديلات في مقابل رفض 43 نائبًا، وامتناع نائب واحد عن التصويت، في حين رفض بوتين تصويت البرلمان على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في حال أُقرت التعديلات الدستورية.

ويعتبر تصويت المحكمة الدستورية صوريًا نظرًا لما يُعرف عن قراراتها التي لا يمكن اتخاذها بدون الرجوع لبوتين، لكن هذا التصويت يبقى ضروريًا حتى يُصار لبوتين الدعوة لإجراء استفتاء شعبي على التعديلات الدستورية في 22 نيسان/أبريل القادم، وفي حال وافق أكثر من 50 بالمائة على التعديلات ستدخل حيز التنفيذ مباشرةً، في خطوة اعتبرها المعارض البارز أليكسي نافالني أنها تمهد الطريق لبوتين ليكون رئيسًا مدى الحياة.

يُشار أن مشروع التعديلات الدستورية يلغي أبرز مواد الدستور الروسي المعمول به حاليًا، والتي تمنع الرئيس الروسي من الترشّح لأكثر من ولايتين فقط، الأمر الذي دفع بوتين لتبادل المهام مع رئيس الوزراء السابق ديمتري ميدفيديف، بعدما تولى منصب رئاسة الوزراء في عام 2008 بقضائه ولايتين سابقتين على التوالي في الكرملين 2000 – 2008، قبل أن يعود مرةً ثانية للرئاسة في انتخابات 2012 حتى 2024 بعد فوزه بانتخابات الرئاسة لولاية رابعة في عام 2018.

وأمام أعضاء الدوما شدد بوتين في كلمة استمرت لأكثر من 80 دقيقة على ضرورة التزام رؤساء روسيا في المستقبل بولايتين كحد أقصى، وهو ما يتناقض مع التعديلات الدستورية المقرر طرحها للاستفتاء الشعبي، إلا أن بوتين برّر التعديلات الحالية بأن البلاد تحتاجها "للاستقرار" في الوقت الراهن، غير أنه عندما تكون روسيا قويةً في المستقبل فإنها ستكون بحاجة لضمان إمكانية تغيير الرؤساء بانتظام.

التعديلات تحدد مستقبل بوتين السياسي

كانت الهيئات التشريعية في البرلمانات الإقليمية قد وافقت في 83 منطقة إدارية على التعديلات، وهي ذات الهيئات التي وافقت على ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عند الاستيلاء عليها بالقوة من أوكرانيا في عام 2014، رغم رفض بعض المشرعين في الهيئات لهذه التعديلات، فضلًا عن اعتقال قوات الأمن الروسية لمجموعة من النشطاء اعتصموا في عديد المدن الروسية للاحتجاج على مقترح التعديلات.

وكان من بين المشرعين الذين رفضوا مقترح التعديلات، المشرعة في منطقة ياقوتيا الإدارية في الشرق الأقصى الروسي سولوستانا ميران بتصويتها بالرفض على التعديلات، قبل أن تعلن تخليها عن تفويضها الذي يخولها التصويت، واصفةً التصويت على التعديلات بأنه "غير قانوني"، مشيرةً إلى أنه لا يحق لبوتين فرض نفوذه على السلطات التشريعية الثلاثة، وأنهم لم يمنحوا فرصة التعبير عن آرائهم في المقترح بسبب الوقت الضيق المحدد للاطلاع عليها.

وطرحت فكرة تعديل تصفير عداد ولايات بوتين في الكرملين لأول مرة من قبل المشرعة في حزب روسيا الموحدة الحاكم فالنتينا تريشكوفا، وهي واحدة من الشخصيات الروسية المؤثرة نظرًا لأنها أول امرأة تصعد إلى الفضاء، وفيما يبدو أن الفكرة لاقت استحسانًا لدى بوتين الذي كان قد طرح سابقًا مجموعة من الخيارات بما فيها تعزيز سلطات رئيس الوزراء أو رئيس مجلس الدولة رغم عدم معرفة المهام الموكلة إليه بشكل واضح.

وفي محاولة لمنع مضي الكرملين قدمًا بتمرير التعديلات الدستورية دعا نشطاء المعارضة لتنظيم مظاهرة احتجاجية في العاصمة موسكو يوم السبت القادم، وقال النشطاء في بيانهم إن دعوتهم للمظاهرة المتوقع أن يشارك بها قرابة 50 ألف شخص للدفاع عم مشتقبل روسيا، جاءت لأن "الدولة التي لا تتغير فيها الحكومة لمدة 20 عامًا ليس لها مستقبل"، غير أن السلطات الروسية اتخذت خطوة استباقية لمنع الاحتجاجات المناوئة للتعديلات بعد الإعلان عنها، بحظرها التجمعات التي تزيد على خمسة آلاف شخص حتى 10 نيسان/أبريل القادم، معللة قرارها بأنه جزء من الخطوات الاحترازية لمنع انتشار فيروس كورونا الجديد.

وتنهي التعديلات المقترحة مؤخرًا ما كان يدور من تكهنات مرتبطة بمستقبل بوتين في الرئاسة لما بعد 2024، بعدما كانت التوقعات تشير لتعزيز دور مجلس الدولة الذي أنشئ خلال فترة ولايته الأولى في عام 2000، ويعتبر المجلس هيئة حكومية بسلطات غير محددة يلعب من خلالها دورًا استشاريًا، أسوةً بتعديلات حليفه رئيس كازاخستان الأسبق نور سلطان نزارباييف الذي أصبح رئيسًا لمجلس الأمن في البلاد لمدى الحياة عقب تنحيه عن رئاسة الجمهورية في عام 2019، غير أن الأمور باتت محسومةً بانتظار نتائج الاستفتاء المتوقع أن تكون لصالح بوتين.

التمديد لبقاء بوتين في الكرملين بدأ قبل موعده المحدد

تقول صحيفة الإيكونوميست في تعليقها على كلمة بوتين أمام الدوما إنها "كانت غامضة مثل التعديلات التي أدخلت على الدستور" لأنها "مربكة وتتناقض مع بعض المواد الأخرى"، إذا إنه رغم قول بوتين في البداية إنها ستعزز سلطات البرلمان الروسي والبرلمانات الإقليمية، إلا أنها في الواقع منحت بوتين سلطة شبه مطلقة في مقابل تقييد سلطات رؤساء البلديات المنتخبين.

كما أن الكلمة تخللها خطاب ديني، ودعوة للعودة إلى تقاليد الأجداد، والحفاظ على الحياة الاجتماعية أسوةً بحياة "الأجداد الذين تركوا لنا مُثلهم وإيمانهم بالله"، فقد كان من بين المواد المقترحة في التعديلات الأخيرة تعريف الزواج على أنه "اتحاد مغاير للجنس واللغة"، ما يعني حظرًا دستوريًا على زواج مجتمع المثليين/ات والمتحولين/ات جنسيًا LGTB، الأمر الذي اعتبره موقع إكسيوس الأمريكي بأنه يهدف لتعزيز الإقبال على الاستفتاء من قبل الروس.

وقال مدير مركز كارنيغي في موسكو ديمتري ترينين في حديثه للموقع الأمريكي إن الأخبار المرتبطة بالتعديلات قوبلت بـ"الكثير من الارتباك" في موسكو بسبب إشارة بوتين سابقًا بأنه سينتقل للإشراف على أحد مجلسي الدولة أو الأمن القومي الروسيين، مضيفًأ أنه فيما يبدو أن خطة بوتين الأولية واجهت معارضة من المسؤولين الذين يخشون على أنفسهم بعد رحيل بوتين عن السلطة.

في حين اعتبر ريد ستانديش في تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية أن مشروع التعديلات الأخير سيكون جزءًا لمجموعة من الإجراءات الأخيرة التي تهدف للإجابة على السؤال الصعب الذي سيأتي بعد عام 2024، لا سيما أن قرار اللجوء للمحكمة الدستورية للمصادقة على القرار يأتي في ظل استمرار معاناة الاقتصاد الروسي، والخلاف مع الرياض الذي أدى لانخفاض أسعار النفط ما زاد من تراجع الاقتصاد، المتأثر أساسًا بتداعيات تفشي فيروس كورونا ما أثر سلبًا على الاقتصاد العالمي.

ويضاف إلى ذلك أنه على الرغم من إشارة استطلاع الرأي بأن بوتين لا يزال يتمتع بشعبيته، غير أن هذه الخطوة التي أرادها بوتين لتعزيز شعبيته كانت عكس ما أراد له أن يكون.

وفي هذا السياق اعتبرت الباحثة في مركز كارنيجي في موسكو تاتيانا ستانوفايا أن التحول السياسي وصل قبل الموعد المحدد في روسيا، مشيرةً لأن بوتين يريد من وراء هذا الانتقال التخلص من ميدفيديف صاحب الشعبية المتدنية بين النخبة والروس معًا، وأضافت بأن بوتين لن يتخلى عن بقائه داخل النظام الروسي عبر تخطيطه للبقاء منخرطًا في رسم السياسات الاستراتيجية.

وتلفت ستانوفايا في حديثها إلى أن بوتين في الوقت نفسه وضع سيناريو لخليفته الذي من المحتمل أن يحقق أجندته الخاصة، مشيرةً إلى تذكر بوتين لتجاربه السابقة مع ميدفيديف في شراكتهما السياسية السابقة، لذلك يعلم جيدًا أنه سيكون لديه بعض النزاعات مع الرئيس الذي يأتي بعده.

ووفقًا للمجلة الأمريكية فإن أحدث استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا الروسي المستقل في كانون الثاني/يناير الماضي، أظهر أن نسبة قبول بوتين بين الروس جاءت بنسبة 68 بالمائة، إلا أن ثقة الروس ببوتين انخفضت بنسبة 35 بالمائة، وهي أدنى نسبة منذ ضم موسكو لشبه جزيرة القرم في 2014، وكان استطلاع آخر قد أشار إلى موافقة 45 بالمائة من الروس على بقاء بوتين رئيسًا مقابل 44 بالمائة يطالبون باستقالته بعد انتهاء ولايته في 2024.

وفتح التحول المفاجئ للأحداث مسارًا جديدًا لبوتين غير أنه لم يزل الغموض حول مسار عمل الكرملين، من حيثُ النظر إلى هذه الخطوة على أنها جزء من محاولة منح بوتين خيارات متنوعة، فقد تجنّب بوتين الإشارة في حديثه بشكل قاطع إلى عدم خوض الانتخابات الرئاسية مرةً أخرى، بالأخص حين خاطب الجمهور الروسي في نهاية كلمته بالقول إنه متأكد من قيامهم بـ"أشياء رائعة معًا.. على الأقل حتى عام 2024".

ويشير ستانديش في تقريره إلى أن مقترح التعديلات يظهر تحولًا ملحوظًا في سياسة الكرملين يعكس انعدام ثقتهم بعديد الطرق التي تم تقديمها لبقائه في السلطة، وكان من بينها بعض المقترحات في منح الرؤساء المتقاعدين حصانة قانونية تمنع ملاحقتهم قضائيًا، ورأى آخرون منح بوتين منصب سيناتور في مجلس الشيوخ الروسي لمدى الحياة، وبرز خيار آخر يدور في إطار الضغط على بلاروسيا للاندماج مع موسكو، وهو ما كان سيسمح بتجاوز حدود المدة المسموحة له في الدستور الروسي.

اقرأ/ي أيضًا: انتهاء قمة النورماندي بـ"التعادل".. ما مصير الأزمة الأوكرانية الروسية؟

وفي حين أن إعادة تصفير عداد الساعات لولايات بوتين السابقة لن تكون بمستوى رغبة الروس المتزايدة في سعيهم للتغيير السياسي في البلاد، فإنها ستوفر للنخبة الروسية في مقابل ذلك فرصةً للحفاظ على وضعهم الراهن، بعدما كانوا يشعرون بالقلق على مصيرهم في حال رحل بوتين عن السلطة، على اعتبار أن الرجل يمثل هرم النظام الاستبدادي القائم في البلاد.

في حين أن التعديلات الدستورية لن تكون بمستوى رغبة الروس المتزايدة في سعيهم للتغيير السياسي في البلاد، فإنها ستوفر للنخبة الروسية في مقابل ذلك فرصةً للحفاظ على وضعهم الراهن

ويقول ستانديش في نهاية تقريره إن بوتين يعمل في الوقت الراهن كحكم في النزاعات عالية المستوى بين الأوليغاريشية الروسية، ويحافظ على منع ظهور الدسائس المحاكة في الكرملين إلى الرأي العام، إضافةً لجزء مهم يتمثل بحمايته لثروة النخبة المالية الروسية، وفي حال استبعد بوتين من هذا الدور فإن النظام الروسي بشكله الحالي سيكون غير مستقر، الأمر الذي سيؤدي حتمًا للاستيلاء على السلطة، والتنافس على ملء الفراغ الذي سيخلفه في حال رحيله.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الكرملين يعيد ترتيب أوراقه أوروبيًا.. ما وراء صفقة تبادل السجناء مع كييف