20-يونيو-2017

غرافيتي على جدار الفصل العنصري

ماناش باتاشارجي شاعر وكاتب ومترجم وباحث في العلوم السياسيّة من دلهي. أصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 2013 بعنوان "قبر غالب"، ولم يترجم له إلى العربية سوى بضع قصائد ومقالات متفرّقة. هذه مقالة مترجمة بتصرف عن علاقة الشعر والشعراء بالسلطة في زمن الاستبداد والثورة.


من يؤمن بالشعر لا يسعه أن يعيش على هوى الوعود المبتذلة والمنافية للشعر كتلك التي تقدمها الحكومات. فالحكومة لا تعد إلا بأجندات، تنشرها عبر أدواتها وأبواقها الإعلامية. أما الشعر فهو خلاف كل شيء تمثله السلطة، وذلك لأن القصيدة تنتمي لعوالم الروح التي لا يمكن أن تنسجم مع ما تمليه حكومات المستبدين.

بما أن جوهر الشعر يتعارض مع قانون الحكم والسيطرة، فهل سيطلع علينا في هذا العالم من يعدّ الشعر مخالفًا للدستور؟

مهمة الحكومة الأساسية هي إصدار الأوامر، وتضييق الخناق على لغة الأمل عبر لغة القوانين. لكنّ للشعر قانونًا آخر، وهو قانون الأمل الذي يسعى ليجد مكانًا له في هذا العالم. وبما أن جوهر الشعر يتعارض مع قانون الحكم والسيطرة، فهل سيطلع علينا في هذا العالم من يعدّ الشعر مخالفًا للدستور؟ لقد كان أفلاطون لا يثق بالشعر، وأعلن بكل جلافة أنه لا مكان للشعر في دولته المثالية، ويبدو أن أفلاطون حينها كان مدركًا لتلك القوة الخطيرة التي يمتلكها الشعر في الوقوف في وجه المثل السياسية، وذلك لأن روح الشعر ستبقى رافضة للرضوخ لأي مُثل تدعيها الدولة اليوم إن كانت هذه المثل ستعدم صوت الحرية في الغد.

اقرأ/ي أيضًا: بورخيس وفلسفة اللغة في "مكتبة بابل"

لا يمكن لأي نظام يسعى لامتلاك سلطة على حياة الآخرين أن يثق بالشعر، وذلك لأن الشعر يمقت السلطة. في أحد الأيام قال أحد الثوار في أمريكا اللاتينية: كل الثورات تنتكس حين تتحول إلى سلطة. ولا عجب في أن نعرف أن أفضل الشعراء في الأنظمة الشيوعية كانوا معارضين منشقين، نذكر منهم مثلاً أوسيب ماندلشتام، وآنا أكماتوفا، وبي داو، وهيبرتو باديلا. فشاعر الثورة الروسية، فلاديمير ماياكوفسكي أرغم على الانتحار، وباديلا تعرض للسجن من قبل السلطات الكوبية ولم يطلق سراحه إلا بعد تقديم عريضة وقع عليها سارتر وسيمون دي بيفوار وسوزان سونتاغ وغيرهم، وقد كتب عن المأساة التي عاشها بقصيدة قال فيها:

هذا شاعر! أخرجوه من هنا!

لا عمل له بيننا.

إنه لا يلعب لعبتنا.

وهو لا يتحمس لشيء أبدًا

ولا يتكلم بوضوح

وبالرغم من أن باديلا قد أيد الثورة الكوبية، إلا أنه لم يكن على استعداد ليكون أداة بيد السلطة ويتنازل عن صوته. فحتى لو كان الاعتقاد السياسي يترك فسحة للتعبير الشعري، إلا أن العلاقة بين الشعري والسياسي قد كان يلفها التوتر على الدوام. يذكرنا ذلك بما كتبه الشاعر الروسي أوسيب ماندلشتام يومًا عن ستالين في قصيدة قال فيها:  

يتحلق من حوله قادة بأعناق كأعناق الدجاج

ويعبث بإطراءات قدمها له أنصاف الرجال

فالشاعر يأبى أن يكون نصف رجل يقدم آيات المديح الكاذبة للدكتاتور. ولأن الشعر كان يتمتع باعتبار كبير في روسيا ويؤخذ دومًا محمل الجد، كما كان يرى ماندلشتام، فإن حالة الشعر قد تدهورت بشكل كبير في ظل الحكم الشيوعي. لم تكن الصين كذلك أفضل حالاً، ونذكر هنا الشاعر الصيني المعارض باي داو، والذي عبر عن تحديه لأكاذيب السلطة حين أعلن قائلاً:

لا أعتقد أن السماء زرقاء اللون،

ولا أعتقد أن للرعد صدى،

ولا أعتقد أن الأحلام أضغاث خيال،

ولا أعتقد أن الموت يمر بلا حساب.

إن مهمة الشعر السياسية هي عدم التسليم بتلك النسخة من "الحقيقة" التي تريدها السلطة، ولا بد للشاعر أن يكون مستعدًا ليضع حياته دون التصديق برواية السلطة. لقد وصف أوكتافيو باز الشعر مرة وقال إنه "الصوت الآخر" الذي يقول شيئًا آخر ما بين "الثورة والدين". يمكن أيضًا أن نقول إن الشعر هو الحقيقة الأخرى، تلك التي تفضح بروباغاندا السلطة. فقوة الشعر هي قوة التفنيد والرفض، قوة أن تقول "لا" في وجه السلطة. وهكذا يكون الشعر أقرب لروح للمضطهَد والمظلوم رجلًا كان أو امرأة.

إن مهمة الشعر السياسية هي عدم التسليم بتلك النسخة من "الحقيقة" التي تريدها السلطة

إن صوت المضطهَد كثيرًا ما يتجلى بين تلك الأصوات المكتومة، في الآمال البسيطة، وفي الآلام العميقة. مثل هذه الأصوات تعرض لنا في ما يقوله الشعراء الذين قاوموا الأنظمة الفاشية في القرن العشرين. فلننظر مثلًا إلى شعر نيلي ساكس، الشاعر السويدي ذي الأصول الألمانية اليهودية، والذي تعرض للاضطهاد النازي خلال الحرب العالمية الثانية، والذي قال:

دائمًا

حيث يموت الأطفال

يصبح الحجر والنجمة سواء

وتتشرد الكثير من الأحلام.

فحيث يموت الأطفال، كما يموتون اليوم في الحروب والنزاعات، يهوي العالم إلى حضيض أعمق، حيث الدعاء يصبح مجرد عويل، ثم يتحول العويل إلى صمت مطبق، وتفقد النجوم أي معنى لها.

اقرأ/ي أيضًا: محمد خضير.. إمساك ما لا يمسك

فالشاعر غير قادر على الإعلان عن وصول الأمل (المخلّص)، لأنه ليس متأكدًا إن كان العالم مستعدًا بعد لتلقي هذا الأمل. نجد هذه النظرة بكآبتها وبما تمثله من حيرة بين اليأس والأمل، لدى الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، والذي قضى سنوات عديدة في السجن بسبب قصائده ضد الدكتاتورية الفاشية لنظام بابادوبولوس، ومن سجنه كتب وقال:

حديد يفل الحديد

مطرقة على سندان

والعجل على السكة. 

 

ومن بين كل قبيلة

ستجد طيرًا

لم يُقتل بعد

آتيًا من الجانب الآخر.

والطير هنا يرمز للأمل الموجود وراء جدران السجن، يدل عليه صوت القطارات العابرة، ورفرفة الطيور التي تلهم الروح للطيران. لكن ريتسوس قد حلم رغم ذلك بالمستقبل، حيث سيتحول حطام الحرب إلى عالم جديد أفضل بعد ثورة تطيح بالظلم والاستبداد.

لكن حتى في لحظة الثورة، يصبح ريتسوس، كأي شاعر حقيقي، على طرف نقيض مع السلطة، وذلك لأن الشاعر الحقيقي لا يمكن أن ينطق باسم الحكومة أيًا كانت. وفي كل عصر يواجه ظلم المستبدين ستجد الشعر حاضراً في المواجهة، فلا غنى عن الشعر للفت الانتباه دومًا لطبيعة السلطة و جوهرها، وبتلك التفاصيل الخطيرة لدى المستبدين. انظر مثلًا إلى ما قاله الشاعر الفنلندي بافو هافيكو، في قصيدة تهكمية مقتضبة عن المستبد قال فيها:

المستبدّ مصدر إلهام لقصائد صغيرة

فهو

لا يعرف ما يميّزه كثيرًا عن سواه.

وهي نصيحة غير مباشرة من الشاعر لكي نبقي شجبنا له مختصرًا سهل الحفظ والتكرار، وذلك كي يسهل انتشاره وفهمه دون تعقيد، ففي زمن الاستبداد يصبح من اللازم أن يكون الشعر مقتضبًا، فيقول الكثير لكن بكلمات معدودة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقدمة في تطوّر الرواية الأوروبية الحديثة

هزيمتنا في الرواية المصرية