09-يونيو-2017

محمد خضيّر (تصوير: أحمد محمود/ العراق)

في كتابه الجديد "ما يُمسَك وما لا يُمسَك" (يصدر قريبًا عن منشورات المتوسط)، يستكمل الكاتب العراقي محمد خضيّر (1942) ما كتبه سابقًا في كتابيه "بصرياثا" و"أحلام باصورا" من تناول خاص للسيرة الذاتية، التي يسميها عنوان الكتاب الفرعي بـ"إنشــاءات سِيريّـة"، حيث يحافظ محمد خضيّر على ولعه بالقصّ، دون أن يكتب سيرة معتادة، بل يمضي إلى خيار شعريّ يخفي ويضمر، يومئ ويشير، فتحضر ملامح البصرة، وصورة الأب، وألوان من الحياة اليومية للكاتب، وعلاقته المشيمية مع الكتابة والأدب، بالإضافة إلى إشارات غنية إلى الثقافة العراقية بكتّابها ومجلاتها وجماعاتها الأدبية.

يكتب محمد خضيّر: "كتبتُ، مع نفسي، سيرةً لحياتي، لم تتعدَّ ألفَ كلمة، عنونتُها "الرؤيا الخضراء" (يتضمّنها هذا الكتاب) ولطالما تصوّرتُ حياتي وحياةَ نصوصي مقاطعَ من رؤيا مشتركة مع سكّان بلادي، عمّالها وفلّاحيها وكَسَبَتِها ومثقّفيها، مزارعها ومصانعها وأسواقها ومدارسها، وكانت هذه المقاطع تنبثق في صيغة رؤيا، لا أمسِكُ إلا بجزءٍ منها.. فمَنْ ذا يستطيع أن يُلِمَّ بسعة هذه البلاد، وحياة مواطنيها الموزَّعين على مساحة آلاف الكيلومترات، وهم ينغمرون بأعمالهم ومشاغلهم وحروبهم ليل نهار؟".

ولد محمد خضير في البصرة، جنوبي العراق، وأنهى دراسته الثانوية فيها. تأهل للتعليم في المدارس الابتدائية، وقضى معظم خدمته في الأرياف. كتب أولى قصصه مستوحيًا عالم الأهوار، وصدرت مجموعته الأولى (المملكة السوداء) عام 1972 التي تتوزع مضامينها على قسمين: مجتمع ستينات القرن الماضي، وحروبه المحلية والعربية. جاءت هذه المجموعة لتؤلف علامة انعطاف في أدب الجيل الستيني الذي وعى حساسيات ما بعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958 وانهيار جمهوريتها الأولى وعكسها في نصوصه السردية.

قضى محمد خضير معظم سنوات حياته في مدينته البصرة، وجسّد صورتها في كتابه "بصرياثا" (1993)، قبل أن ينتقل إلى استلهام أحلامها في آخر كتبه "أحلام باصورا" (2016). وبين هذين الحدّين السِّيرييْن صدرت له: "في درجة 45 مئوي" (1978)، "رؤيا خريف" (1995)، "كراسة كانون" (2001)، "حدائق الوجوه" (2009). كتابه "ما يُمسك وما لا يُمسك" ثالث الركائز السِّيرية التي تقوم عليها معظم القصص القصيرة لمحمد خضير.  


فوات ما فات وما يأتي

(مقاطع)

1
فاتَ الكثير ممّا ينبغي عليَّ اتّباعه لجَرْد مدّخراتي السنوية، وإنّي لأشعر بقَدْر من الأسف على فراغ جِرابي من ألقاط الطريق، وبقدْرٍ مماثل من حسد الأدباء الذين تركوا بين أوراقهم مفكّرات، تتضمّن قوائم حساب المطاعم والفنادق التي ارتادوها، وأسعار الثياب والحاجات التي اشتروها، وغير ذلك من أسقاط الحياة اليومية. فجأة يجد المرء أنّ فواتاته لا تُحصى في قائمة، وبخاصّة تلك التي تَشُوقه وتُسجِّل رقيّ معارفه، فضلًا عمّا يدّخره لكتابة أحد أعماله الأدبية.

تتحرّك الأشياء الضعيفة، الآثارُ الذابلة والميتة، الأفكارُ الراكدة والمخذولة، بدفعٍ غامض إلى الأركان والزوايا

وعلى درجة من الأهمّيّة، فقائمة الفواتات تتضمّن جَرْدًا بالقراءات الروائية، وتدوين خلاصةٍ لحوادثها وشخصيّاتها وأماكنها ومفردات حواراتها الغريبة، وغيرها من أطعمة وأشربة وأثاث، وما حول ذلك. كم يبلغ أسفي على ما فاتَني من عبارات نادرة، وأخرى شائعة من مثل "على حين غرّة" أو "في طرفة عين" أو "ضربة لازب"، استعارات مثل "بائعة لذّة" أو "فَرَس رهان" أو "ناطح صخرة"، استعمالات نحوية، لغات ولهجات ومصطلحات، أهملتُ تدوينها حين قراءتها أو سماعها أوّل مرّة.

خلَتْ مفكّراتي من هذه الفواتات، ولو أنّي بوّبتُها في دفاتر خاصّة، لحصَدتُ منها الكثير، ولكانت متعةُ جمعِها هائلة، كما أظنّ. وإذْ يزداد أسفي يومًا بعد يوم على نفسي، أشعر أنّ الوقت لم يفُتْ تمامًا لنُصْح مَن فطِنَ إلى إملاء هذه المحاصيل على نفسه يوميًا، أن يسير بعمله حتّى نهايته. أما مَنْ فاتهم الأوان من الغافلين أمثالي للبدء بذلك، فلهُم العزاء بما يرزُمون من فتات أيّامهم في رزمة واحدة في نهاية كل عام، يؤرّخونها، ويرسلونها بعد فوات أوانها، عسى أن ينفع ما فات ومضى باستدراك طعم الأوقات الفائتة وسريانه في مستقبل نصوصهم.

تتحرّك الأشياء الضعيفة، الآثارُ الذابلة والميتة، الأفكارُ الراكدة والمخذولة، بدفعٍ غامض إلى الأركان والزوايا، إلى هامش صغير بجانب مساحةٍ، احتلّتْها الأشياءُ الكبيرة والأفكار النشطة، الصورُ والذكريات المؤطَّرة، تتحرّك وتتكوّم في الركن المتبقّي من نهاية كلّ عام. هذه الأفكار المتبقّية من حصاد السنين هي فواتات الحقل الذي جاءت عليه رياحُ الخريف، زفراتُ التقويم المندفع إلى نهايته، روائحُ العمر الذي سيأتي عليها المطر. لا حيلة لي في أن ألتقط بعض هذه الفواتات من مساحاتها الصغيرة في بطون مفكّرات الأعوام الماضية وأطرافها، وأقدّمها في رِزَم مضمومة تحت نور المسرح الذي تتفاعل عليه أدوارُ هذه الأيّام المتصارِعة، تخلّصاً من ضغطها وإلحاحها المشبَّع بالأسى والتشنُّج.

2

 أبدأ بعرض مَيْلي الطبيعي والعقلي لاحتواء الأشياء في نظري وحروف نصوصي، وتطويع غريزتي البهيمية لغريزة التأليف الخيالية، أيْ غريزة الكِتاب الأساسية. فالكتّاب مفطورون على تأليف الكُتُب، عملُهم الأساسي صناعة الكُتُب. تُولَد غريزة الكِتاب في أحشائهم مع ولادتهم، وتنمو مع نشوئهم الغريزي، يمتثِلون لدافعيّتها التي تنبجس مثل قوّة لا تفسير لها من الأعماق، يُبجلّونها، ويرفعونها إلى أسمى الرُّتب، لا يردّون لها نداءً، ولا يكبحون سطوتها على النفس الجامعة غرائزَ الجسد، بل إنّ غريزة الكتاب تسطو على النفوس التي تخلو منها، تَدخُلُها، وتسيطّر عليها، فتفرض عليها قوّتها الغريزية. غريزة أوّلية تتلذّذ إذْ تُحطِّم، تخترق، تُعذِّب، تستولي، تُحرِّر ما عداها من غرائز الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: بورخيس وفلسفة اللغة في "مكتبة بابل"

غريزةُ الكتاب فطرة أولى جامعة لملذّات الطبيعة، تستعبد ذاتها، إنْ لم تُحرِّر غيرَها. الكِتابُ الذي يستجيب لغريزته الأولى، يُولَد حُرًّا استثناءً من مؤلّفه الذي ينتمي للجموع التي تُنصِّب الأصنامَ على غرائزها. المؤلِّف المدحور إزاء حُرّيّة كتابهِ، ينضوي إلى الجموع التي تقدّم شعائر الاحترام للكِتاب، تريده أن يغدو صنماً يُضاف إلى أصنام الأرض. يضاف الكِتابُ إلى خزائن الأرض، ويغادر ذاكرته الطبيعية، ليدخل ذاكرات إلكترونية، أُعِدَّت لترويض غريزته الهوجاء. إنه الحَجْر نفسه الذي ميّز عصور إعدام الكِتاب، باعتباره مصدراً للشّرّ، أو تقديسه باعتباره نصّاً فوقياً، تَستنسِخ الكُتُبُ الأرضية كلّها من أصلهِ المحفوظ. لكن الكِتاب يسير في الأرض حُرّاً من قيوده. 

3

ليتني استطعتُ تسجيل بيانات ذلك النُّمُوّ البطيء، أو الاندفاع الأهوج لغريزتي الكتابية، ثمّ الطباعية، بأوسع منتجاتها النفسية والجسدية. لأبدأ من نقطة هادئة مشتركة: يتعاظم شعور رفضِ الظّلم الاجتماعي ببطء ورسوخ في وعي الشباب بعد انتقالهم من الوسط التربوي العائلي إلى الوسط المدرسي الأخويّ، فتنشأ حول قاعات الدرس روابط طلابية تعيش تجربة الرفض المتوجّسة لسلطة النظام الاجتماعي الصارمة في صورة منشورٍ مجهول المصدر منسوخ على صفحة دفتر مدرسيّ. 

كان منشوري الأوّل قصيدة السّيّاب "حسناء الكوخ" تناقلَتْه الأيدي خلال دورة الصباح السّرّيّة. أوصلَتْ تجربةُ المنشور الأوّل الطالبَ الثانويّ المندفع إلى حلقةٍ من أخويّات مكسيم غوركي، فأودعَ عندها منشورًا ثانيًا بعنوان "أنشودة الصقر". وما عتمت بذور المنشـورَيْن أن أُخصِبتْ بقراءات كُتُب "الأمّ" و"أسـرة رومانوف" و"ستّة وعشرون رجلًا وفتاة واحدة". 

شقّت الروايات قشرةَ الفترة الملكيّة؛ حيث شقّت القشرةَ القيصرية في الموضع نفسه. داست الجزمات قشرةَ الجليد القاسي، فتصاعد منها هواءٌ تمّوزيّ ساخن، وانبثق (النّصّ) الأوّل لطالب الثانوية من تحت أقدام التمّوزّيين الذين كان يجري معهم. كان عنوان ذلك النّصّ مُنتزَعًا من عنوان "والفولاذ سقيناه" لأوستروفسكي. 

الكِتابُ الذي يستجيب لغريزته الأولى، يُولَد حُرًّا استثناءً من مؤلّفه الذي ينتمي للجموع التي تُنصِّب الأصنامَ على غرائزها

نشأ النّصّ الأوّل في ظلّ جدارٍ شاهق من الأجساد الفوّارة المتراصّة، فلم يُبصر الفضاءَ المترامي وراء الجدار. لم يكن ذلك سهلًا على الشّابّ الذي تربّى على منشورات الطبيعة المجهولة وغرائز الكُتُب الثورية لغوركي. صارت نصوصه التالية توّاقة للمساحات المفتوحة وراء الجدار، وأرسَلَتْ من هناك مضامينَها إلى أهل الجدار الذين كانوا يتمسّكون بلغة الأخويّات المنغلقة على ذكريات نضالها العنيد. كانت النصوص تمرح في جنّتها الريفية، وعندما تقوَّضَ الجدار، وطمَرَ أعضاءَ الأخويّة القدماء، وَرِثَ أخو الرجالِ المنقرضِين أفضلَ رموز النشأة المدرسية، وأحمى غرائز منشوراتها السّرّيّة. 

4

تطلّبت الصدمة تجوالًا من نوع آخر في أقاليم الغريزة الكتابية، هياماً في منطقة الانهيار حول منطقة الجذور المحظورة، كتابةً مجزّأة إلى حظائر وغيتوات. بين حظرٍ وحظرٍ تجوالٌ يهيم بخطواتنا، بعد خروجها من أوكارها، وأخطر هذه الأوكار وكر الأخوية القديم. أنتج حظرُ الكتابة سابقًا دفاترَ تجوالٍ من نوع عظيم: دفاتر هرمان هسه وماركيز وصنع الله إبراهيم ومحمّد شكري. بينما عانى النوع العراقي خوفًا من الاقتراب من متاريس الحظر اليومية، قصورًا في حرْث المتلازمات الأخوية بحثًا عن الجذور، تردّدًا في مقاربة خطاب الصدمة المفصوم بانهياراته التاريخية. 

اقرأ/ي أيضًا: "ترحال"..سيناء كما يرويها نيكوس كازانتزاكيس

أين يبدأ اليوم العراقي الآن؟ وأين ينتهي؟ جمعُ الحال والظرف بعلامة سؤال واحدة محاولةٌ لتبسيط الوضع الشائك لمواطنٍ غير مُسمّى، محشورٍ في الفسحة المديدة لانتشار كتلةٍ متشابهة من المواطنين، يبدأ يومُه في وقت مبكر من الصباح، وينتهي مع ساعات الليل الأولى. وخلال هذا الوقت القصير بساعاته، الطويل بحوادثه، يتعرّض المواطن المجهول إلى أخطار لا حصر لها، ينجو منها بمصادفة، أو بأخرى، أو يسقط ضحيةً باردة في مصيدة، فيتمّ حذفه من جدول الأيّام، ليحلّ في مكانه مواطنٌ يشبهه، لا نعلم متى يأتي دوره في الحذف والنسيان، وكيف يبدأ يومه، وأين ينتهي. 

متابعة هذه الضحية الدوريّة تتطلّب تجوالَ أيّامٍ عديدة، بل شهور مديدة، في مُدُن عراقية كثيرة، لاستخلاص يومٍ واحد في حياة مواطن، نعرّفه برمز جامعٍ لرموز شتّى في إعصار فترة الانهيار، بما فيها الرمز الخاصّ بمؤرّخ هذا اليوم الجوّال، الذي سيرتدي لإنجاز مهمّته هويّات أشخاصٍ متنكِّرين في أزياء ممرّض مستشفى، بائع متجوّل، ساعي بريد، سائق أجرة، طبيب شعبيّ، مشعوذ، نصّاب، جزّار، إسكافيّ.. وسيتعرّض مثلهم جميعًا إلى احتمالات الحذف بمصادفة تعيسة، ما لم يُدوِّن وقائعَ تجواله اليومي في الأجل المعلوم، قبل حلول الأجل غير المعلوم لمؤرّخٍ غيره، يُنجز العمل بدلًا منه، وقد لا يُنجزه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هزيمتنا في الرواية المصرية

رامبرانت.. يوميات المرح والاضطهاد