31-مارس-2017

عمران يونس/ سوريا

لا يرى فادي سعد قدرةً للشِّعر على التَّساوق والصُّعود إلى مصاف المأساة السُّورية؛ فثمة أسباب كثيرة تمنع من اندفاع هذا "الشِّعر" إلى الانطلاق والتعبير بقوة وبصدقٍ عن هذه المأساة، أسباب ترتبط بالتقييدات التي راكمتها مرحلة السبعينات؛ لتمنع الشِّعر من بلوغ البعد الملحمي، ولما كان من الصعوبة إنجاز ذلك؛ فلا بدَّ من اللجوء إلى الأنواع النثرية التي ربما يمكنها أن تسدَّ الفجوة الكائنة؛ لذلك يختتم رأيه بالقول: "رأيت بلادًا تسقط أمامي، فقررت أن أسقط معها في النثر"، وفي واقع الحال يمكن الاتفاق مع فادي حول خنق الشِّعر السوري بجملةٍ من التقييدات تمنعه من المجازفة وإنجاز المأمول، كما يمكن أن تكون الأشكال النثرية أوسع من الشعر في الإحاطة بالتراجيديا السورية، لكنَّ اللحظة الشِّعرية لا تعرف الموانع إن توفرت "الذات الشعرية" التي يمكنها أن تُمَلْحِمَ "الحدث السوري الفريد في انطلاقته وتراجيديته" لتجعل الكلمة الشعرية "حدثًا" فريدًا بذاتها.

فادي سعد: رأيت بلادًا تسقط أمامي، فقررت أن أسقط معها في النثر

يتساءل عبد الكريم بدرخان في بدايته: "هل هنالك جدوى من الشّعر السوري اليوم؟ نعم هنالك جدوى، أولًا تشكّلُ كتابةُ الشعر صرخةً من الإنسان السُّوري في وجه طغاة العالم"، وهنا تتبدى قوة الشِّعر ــ في كونه صرخةً، صرخة الحرية، صوت الكينونة ـــ الذي لا بدَّ منه بعيدًا عن السقوط في الابتذال الكتابي؛ فالشعر يبقى تلك الفسحة التي ينبثق منها الجمال. وإذ يؤكد بدرخان على هذه الضرورة يرى في الوقت نفسه أنَّ الأجناس السردية "المذكرات، اليوميات" تؤدّي دورًا مهمًا في الكشف عن خبايا ماجرى ويجري في تضاريس سوريا ومدنها وقراها.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر السوري في الشتات: قراءة في رؤى نقدية (1- 2)

من جهته، يتحدث الشاعر محمد المطرود عن قصيدة جديدة "صارت تكتب بوجود الكارثة السورية"، ويرى أنّ هذا الحدث أفرز مستويين من النشاط الكتابي، نشاط لم يخرج عن دائرة الاجترار، وآخر يذهب بعيدًا بكتابةٍ ذات نفسٍ كونيٍّ وبعد أدبي. 

لكن الشاعر ينبّه إلى أنَّ الوقت لم يحن بعدُ للحكم على هذه "الكتابة" في ظلِّ دوام مسار تحولي تمرُّ به المأساة السورية، لكن ثمة سؤال ينمو على تخوم قراءة محمد المطرود: ترُى لماذا لا تستطع الكتابة الشعرية ــ حتى تلك البعيدة في أهدافها ــ أن تلفت الانتباه إليها، ولماذا لم تنبثق تلك "القصيدة" الاستثنائية، أم أن الزمن أطاح بالشعر كجنس أدبي لبنينة حدثٍ هائل مثل الانتفاضة السورية؟ 

وتبعًا للشاعر أكرم قطريب، يبدو أنه لم يحن الوقت لتدوين التراجيديا السورية، ولن يتوقف دور الشعر هنا على تأجيج نيران الغضب وكتابة المراثي والانتباه إلى أنها ليست حدثًا تلفزيونيًا وحسب، مزينًا بخيطان اللهب ومقدمي نشرات الأخبار. 

لا ريب أن الشعر السوري الآن لم يلتقط حتى الآن تلك الجمرة، وما كتب عنها بقي في إطار النية الطيبة، وأن أسلحة الحرب أقوى بكثير من أسلحة الكتابة، وصراخ الضحايا لا يمكن تسجيله على ورقة صغيرة ثم رميها في الأدراج أو نشرها على صفحات الجرائد". سيلحظ القارىء أن أكرم قطريب يتشاكل مع الكثير من القراء والنقاد والملاحظين بأنَّ اللحظة الإبداعية لم تنبثق بعد، فأسلحة الحرب أقوى من أسلحة القصيدة، والقصيدة تحتاج إلى وقتٍ آخر، إلى زمن آخر لتنبثق وتقول كلمتها. 

يرى محمد المطرود أنَّ الوقت لم يحن للحكم على الشعر في ظلِّ مسار تحولي للمأساة السورية

تعبّر الشاعرة وداد نبي عن هموم القصيدة ووظائفها في سياق هذه الكارثة فهي بمنزلة الفضاء الذي نستعيد فيه التوازن النفسي بعد الانكسار والدمار والخراب، أو قل إنها أداة تطهير من الشعور بالعجز والخذلان تقول: "القصيدة أولًا وأخيرًا هي شأن فردي وشخصي جدًا، تخفف الكتابة عن صاحبها هول الصدمة بالواقع وقسوته، ذلك الواقع الذي يلجأ كل منا بطريقته لتقبله، وخاصة في الحروب، حيث تزداد الهشاشة البشرية مقابل ازدياد البشاعة الحياتية، هنا تزداد حاجة الشاعر للقصيدة، يلجأ للقصيدة ليشفى من الندوب التي تتركها الحرب على روحه، القصيدة هي تبرير عن العجز، عجز الشاعر عن الإتيان بفعل لإنقاذ عالمه الذي كان يحلم بهِ"، كأنَّ القصيدة هي تطهير من آثام الحرب"، لا شكَّ أن القصيدة تأتي كتبرير عن عجزنا لفعل شيء بإزاء الدمار، وإذ تأتي القصيدة فإنها تضع لافتة سوداء على وجوه المجرمين! 

اقرأ/ي أيضًا: منذر مصري وشركاه.. هكذا احتال الشعر علينا!

ينظر عمر يوسف سليمان إلى القصيدة من منظور مختلف، نظرة وجودانية، فالشِّعر في هذه اللحظة من عمر التراجيديا السورية "نجاة من هذا الجحيم، ففي المنفى، حيث يحيط بنا العدم من كلِّ جانب، تصبح اللغة وسيلة حياة"، هنا تغدو القصيدة قادرة على استعادة المكان ــ البلاد بعد أن جرى تدميره، هكذا تغدو "القصيدة" موطنًا للكائن والمكان معًا، وهذا ما كان يفعله الشعر دائمًا، بوصفه مسكنًا للكينونة كما يقول مارتن هيدغر. 

في سياق آخر، يتهم أحمد قطليش الكثير من الشعراء بتلميع صورة الحرب، عن طريق الفعاليات والمشاركات وما يتبعها من منازعات، ويرى بأنه لا يوجد شيء حقيقي يستطيع الشعر تقديمه في الوقت الحاضر، وهنا نتساءل ما الذي يمكن أنَّ يقدمه الشاعر سوى إدانة القبح وبلورة الإحساس بالتراجيديا التي تلهو بمصائر السوريين بعد أن استورد الطاغية كل قوى الشر لخنق الكينونة السورية، لخنق الكلمة؟ 

أخيرًا، يفسر فايز العباس حركة الكتابة وفق غايتين: "بأن كل الذين ساهموا في حركة تدوين اليوميات السورية انطلقوا من غايتين واضحتين هما: محاولة فعل ما يستطيعونه في ظل سيطرة الرصاص لفضح المجرم، والرغبة بإظهار المعاناة اليومية، وربما كلا الغايتين تندمجان تحت باب فعل المستطاع للتخلص من عقدة الذنب وتأنيب الضمير"، ولا شك بأن الغايتين واقعيتين كوظيفتين للكتابة الشعرية وغيرها من الأجناس، لكن فايز مثل كثير من المتابعين ينتظر الوقت لكي تبزغ القصيدة الشعرية التي يمكن الرهان عليها.    

 

اقرأ/ي أيضًا:

ضبط إيقاع التفاصيل

محمد أبو لبن.. صفعة الغريق على وجه الماء