25-فبراير-2017

بيادق (Getty)

ماذا أقدم لك في هذا المقال؟ لا أدري. ولكن هل تدري ماذا تقرأ الآن؟ مجرد حروف ملتئمة، متتاليات مختلفة من 1 و0، اقرأ الكتاب بصوت عالٍ، ماذا تسمع؟ جهاز يخرج أصوات أحسن استغلاله، وجهاز آخر يدخل معلومات متماسكة أحسن استغلاله أيضًا. ماذا تشم الآن هل تعرف؟ خذ نفسًا عميقًا. إنك حتى لم تنتبه إلى الروائح التي تدخل أنفك، واللعاب الذي يلاعب لسانك.

ألم تسأل نفسك لماذا حواسك خاملة وعيونك منطفئة؟ لماذا تلصق كلمة عادي بالأشخاص عديمي الاختلاف والموهبة بأفعال الطبيعة اليومية؟ مثل شروق الشمس، والنسمات الرقيقة، ورائحة البن والتبغ، وإن أحببتها يومًا، مجرد أن تألفها، وتعتاد حواسك الروائح والأشخاص والألوان التي تتفاعل معها يوميًا، حتى يفقد الجميع طزاجته، وحواسك دهشتها.

ألم تسأل نفسك لماذا حواسك خاملة وعيونك منطفئة؟ لماذا تلصق كلمة عادي بالأشخاص عديمي الاختلاف؟

كلما رأيت طفلًا يبكي ويضحك، ويلتصق بأمه، هذه الدهشة في عينيه، ذلك التجاوب الفطري التلقائي لما يحدث من حوله، كلما اكتشفت فظاعة عملية التربية، مسخ كل السمات الطفولية، وأولها التفاعل الحميمي مع تفاصيل الحياة المباشرة إلى ما يسمونه نضج، وهو في الحقيقة مسخ في الروح وتبلد في المشاعر.

اقرأ/ي أيضًا: الرجل الخراب.. أسئلة الهوية

هل شعرت بالخوف من عدو واضح محدد؟ بلطجي خرج لك بخنجر وجرى خلفك، هل تنتبه لتلك الطاقة التي تبذلها؟ ضعت في صحراء مليئة بالذئاب، والجو ظلام، عينك ترى، أذنك تسمع، أنفك يشم، العقل يغرق بكفاءة في تحليل البيانات التي تدخل إليه.

يقول نيتشه: الحياة هي الحياة على حافة الخطر. وأوصي الناس أن يبنوا مساكنهم على حافة البركان، هل لاحظت في حياتك الخاصة كيف أن معاملة زوجكِ الجميلة لكِ أصابتكِ بالملل؟ إلى الدرجة التي تتمنين فيها أن ينفجر فيكِ، أن يضربكِ.

دعني أتحدث معك على مستوى آخر، هل شعرت بخوف مما لا خوف منه؟ هل جلست مع حبيبك بلا شيطان؟ هل شعرت خلاياك بالخوف وأنت تمارس الحميمية معه فلطمته على وجهه بدلا من أن تقبله؟ هل شعرت بالفزع عندما ضحكت من أعماق قلبك؟ هل استرخى جسمك يومًا؟ وانتشت روحك فقلت في سرك "ربنا يستر"، واعتبرت الفرحة والانتشاء نذير شؤم.

الحياة هي الحياة على حافة الخطر. لذلك أوصى نيتشه الناس أن يبنوا مساكنهم على حافة البركان

سواء كنت تدري أو لا تدري، فأنت محمل بعبء ممارسات بشرية منذ آلاف السنين، مرت على البشر فترة عصيبة، تقلبات مناخية حادة، في لحظة تختفي المياه والشجر والحيوانات، اجرِ، اجرِ بأسرع ما يمكن، كلما كنت خائفًا على حياتك أكثر، ومهرولًا أسرع ستنجو، حتى تعثر على بقعة أخرى فيها مياه وشجر وحيوانات، وهكذا. في تلك الفترة أصبحت الخلايا المسؤولة عن الخوف والقلق أكثر نشاطًا، وبعد أن تجاوز الإنسان تلك الفترة، مكنت مشاعر الخوف والقلق بعض البشر من السيطرة على البعض الآخر، أسوأ وأقذر ما في البشر الذين لا يتورعون عن الكذب والسرقة والقتل، مكنتهم من السيطرة على العاجزين عن الكذب والسرقة والقتل، الخائفين على حياتهم.

وبعد ثورة كانون الثاني/يناير، وثورات "احتلوا" في الدول الصناعية الكبرى مثل ألمانيا وأمريكا وبريطانيا، اختبر الناس بشكل مباشر هذه النزعة التي سماها أحد علماء الاجتماع "اللصوصية" في الحكام، اختبروها في حياتهم اليومية على مستوى مباشر، وليس على مستوى معرفي ذهني.

ولكن لماذا يخضع الناس لهؤلاء اللصوص؟ ليس خضوعًا فقط ولكن البعض يتعصب لهم، ويضطهد معنويًا كل من يقف ضده، والبعض يعيش في حالة "إنكار" للواقع، يعيش كأن هؤلاء اللصوص الذين يخربون عليه حياته غير موجودين، ويعيش وهمه بأنه يختار في دائرة حياته الشخصية اختياراته وعلاقاته، وقد تتطور عنده حالة الإنكار هذه إلى الدرجة التي يتخلى فيها عن أصدقائه المهتمين بالسياسة، ويعادي أي حديث سياسي على طاولات المقاهي والبارات، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: الجنس في تونس.. سلطة الأخلاق وسطوة الغرائز

لماذا يحدث هذا؟ لعل في تشبيه أبي حامد الغزالي إجابة، نعم حياتنا النفسية هي صورة مصغرة لحياة مجتمعنا، النظام الكبير الذي يسيطر عليه البنك الدولي في أمريكا، والسلطات العسكرية والملكية في الشرق الأوسط، يوجد منهم نسخة مصغرة في جسمك وعقلك ونفسيتك.

عندما يتحكم اللصوص في السلطة، يقربون منهم لصوص آخرين، مثل رجال دين وإعلاميين وكتاب وعلماء موهوبين بالجوائز المحلية والدولية، بالتنجيم الإعلامي، ماذا يحدث في عقلك أنت كشخص؟

يحدث أن أسوأ ما فيك هو الذي سيتحكم في أجمل وأرقى ما فيك، بنفس وسائل السلطة المركزية الخوف والقمع والطمع والرغبة، المراكز العصبية المسؤولة عن الخوف والرغبات تنشط بشكل حاد، تجد نفسك تبحث عن مناطق آمنة، عمل روتيني، حبيبة محافظة وأكثر غباءً منك، حتى تربي أولادك وتطعمك وتكسيك بلا شكوى، صديق أقل ذكاءً منك تستطيع أن تسرد له أكاذيبك، أو العكس تختار مناطق آمنة باختيار أشخاص وعمل وطريقة حياة، يتحكم فيها أشخاص آخرون أكثر قدرةً وذكاءً منك، تلقي عليهم مسؤولياتك الشخصية، ويشعرونك بالأمان، وتتعامل معهم كالكلب الوفي لا تستطيع أن تتحرك خارج دائرتهم قيد أنملة.

البعض يعيش في حالة "إنكار" للواقع، يعيش كأن هؤلاء اللصوص الذين يخربون عليه حياته غير موجودين، ويعيش وهمه بأنه يختار بنفسه

قد يتطور الأمر عند البعض لحالة مرضية، وهي التي يسموها بعض العلماء "المازوشية" التلذذ بالانسحاق والاغتصاب وسائر أنواع الآلام الشخصية، أو السادية وهي التلذذ بإيلام الغير معنويًا وماديًا.

لا سبيل لك إلى فهم هذا الوضع المتردي النفسي الذي وصلنا إليه؟ عندما يصبح العبوس والاكتئاب والحزن والمحن هو العادي، والابتهاج بالحياة والاحتفال بها هو الاستثناء، عقلك ليس مجرد أداة محايدة للتفكير، ولكن في جزء كبير منه انعكاس لما تحسه وتخافه وتطمع فيه، ولأن السلطة المركزية أو مراكزك العصبية جعلتك ضد نفسك، ضد كل ما هو جميل وخير وراقي في كينونتك وطبيعتك البشرية، جعلتك حتى "آنتي إنتليجينس" أي معاديًا للثقافة والذكاء المعرفي، ونجحت في بتر فضولك المعرفي، وانتزعت منه قيمته، لا سبيل إلى فهم ذلك إلا بالتذوق والاختبار المباشر، أن تعيش لحظة تشعر فيها بخلودك، وجسمك مخدرًا من الانتشاء، وروحك محلقة في مناطق بكر لم تصل إليها من قبل من الإحساس بالنشوة والحرية والخلود.

ولكن دعني أبسط لك الأمر نظريًا على الأقل، إن تلك الخلايا المسؤولة عن المشاعر المتعلقة بالعقاب والثواب، هي التي تعمل عليها المخدرات وكل أشكال التأمل، مثل التركيز على شيء وتصفية العقل من الأفكار، التي من المفترض أن تجعلك منتشيًا ومبتهجًا بلا سبب، بلا مجتمع يصفق لك لإنجاز حققته، بلا فتاة تبتسم لك لإنجازك الرائع معها، بلا اعتراف من السلطة والإعلام بتميزك ومواهبك، لذا فهي محاربة أكثر من التعصب والاكتئاب والأمراض النفسية، سواء من السلطة المركزية، أو من عقلك وطريقة تفكيرك، أو من خلاياك العصبية النشطة.

اقرأ/ي أيضًا: عزيزي المثقف المصري: الأزمنة ليست كلها سوداء

بماذا تشعر الآن وأنت تقرأ هذه الكلمات؟ الخوف، القلق، الفضول، السخرية، التشوش، لا أحد يعرف عالمك وتحدياتك الشخصية إلاك.

تعود قصة مسخ الكائنات البشرية إلى "زومبي وروبوتات" خائفة ومذعورة وعدوانية، إلى آلاف السنين، إلى الخوف الغريزي من الموت والحيوانات المفترسة، ويقول علماء الأنثربولوجيا أن هذا الخوف سبب التئام خلاياك، والتماسك الذي تشعر به فيما تراه وتسمعه، رغم أن الحقيقة التي تقرها الفيزياء الحديثة هي الفوضى، وأن التماسك وهم، هذا على الأقل ما تثبته الفيزياء الحديثة، والجدران التي تحيط بنا كلها وهم، فالكون مليء بالطاقة أو "الموندات" كما يسميها أحد الفلاسفة الألمان.

كيف تقرؤني الآن؟ دعني أتخيل فأنا قارئ أيضًا، وقرأت مئات الكتب قبل أن أكتب كتابي هذا، أنت جالس في غرفتك، والموسيقى في أذنك، أو أنك تدفع الشعور بالملل والانتظار في حافلات المترو، أو المواصلات العامة، أو التاكسي، أو على قهوة قبل أن يأتي إليك صديقك الذي تأخر عنك كثيرًا، حواسك باردة، أو فاترة، عيونك تترجم الكلمات ويهضمها عقلك بشكل تلقائي.

الخوف سبب التئام خلاياك، والتماسك الذي تشعر به فيما تراه وتسمعه، فالحقيقة التي تقرها الفيزياء الحديثة هي الفوضى

ملايين السنين تطورت بما يكفي لتجلس مستقرًا في مكانك، خلاياك تحمل في تشكيلة بديعة من التعاون والاتحاد، تخاف أكثر مما تخاف من السرطان، وهو خوف خلاياك أيضًا، أن تتمرد مجموعة من الخلايا عن التعاون ونقل المعلومات بين أعضائك، لتدخل في حرب أهلية داخلية، وأنت أيضًا كعضو في جماعة، مواطن في وطن، فرد في عائلة، منتمٍ في مجموعة دينية أو حزبية أو ناشطة، هذا أيضًا ما تخافه، أن تتخلى عنك زوجتك، وتذهب لرجل آخر، أن يقوم أحد من الحزب بالتمرد على الحزب، أن تتحول العائلة المتآخية إلى أعداء، إلى حرب أهلية في بلدك، بلا سلطة بلا مركز، ألا تحترم عقائدك ومبادئك اجتماعيًا، هذا التماسك بين رغباتك ومصالحك الخاصة ومعتقداتك تخشى عليه من التفكك والانهيار، ولكنك لا تعلم أن السلطة المركزية هي التي صنعت هذا التماسك، وزرعته فيك عبر التربية ورجال الدين والخبراء الذين ينعقون في الإعلام.

كان القدماء يشبهون الجسم والنفس بالدولة الصغرى، شكل النظام الذي يعيشون فيه يخلق "ميكانيزم" للتفكير في حياة الفرد، الشيخ أبو حامد الغزالي كان يرى أن العقل هو الخليفة، والجسم برغباته وشهواته مثل الرعاع، وهناك حديث نبوي يشبه علاقة المسلمين ببعض مثل الجسد الحي إذا مرض عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وهي في الحقيقة لفتة ذكية، وعميقة من عالم متأمل.

اقرأ/ي أيضًا: "الحشيش" بين المُشرّع والمجتمع في تونس ما بعد ثورة

لعلنا لاحظنا في ثورة كانون الثاني/يناير وما بعدها، حتى لحظة قراءتك لهذا المقال، كيف أن انعدام السلطة الشرعية المعقولة يؤثر في النفس، ويصيبها باضطرابات مزاجية، ويجعل البعض متعصبين جدًا سواء دينيًا أو اجتماعيًا أو ثوريًا في الغضب على المجتمع، والتعصب كما تفسره بعض دراسات علم النفس الحديث على أنه سلوك إحمائي.

الصفة الأساسية التي ترتكز عليها السلطة المركزية الخوف والتملك، أيًا كان دينك أو حزبك

السلطة المركزية هي التي تسبب التماسك في المجتمع البشري، هي ليست لازمة لهذا التماسك، لأنها مصطنعة، أنت لم تصنعك الطبيعة لتكون خاضعًا للسلطة، أو محتاجًا لها، ولكن ما الذي جعلنا الآن محتاجين للسلطة؟ هذا التماسك بين البشر تماسك عدو للحياة، عدو للخلايا التي في جسمك وعقلك، إنها تؤذيه، هل أقول كلامًا غريبًا؟ إنها تئن مثلك، من الاكتئاب والأمراض والتعاسة وفقدان معنى الحياة، بل عدم الاستمتاع بها أيضًا، الانتشاء بكل هواء نفس، بكل منظر عين، بكل صوت أذن، بكل لقمة فم، لا يمكن أن يحدث لك وأنت داخل هذا التماسك الاجتماعي المزيف.

الصفة الأساسية التي ترتكز عليها السلطة المركزية الخوف والتملك، أيًا كان دينك أو حزبك. بالتأكيد لو كنت تعيش داخل دولة أو مجتمع فبالتالي أنت إنسان مذعور وتملكي، خوفك يجعلك ترى أشباحًا، يفتح الباب واسعًا لكل الأمراض النفسية التي لا تدرسها المدرسات النفسية مثل الإحساس بالتآمر، التلذذ بالانسحاق، الاستمتاع بالألم، رجم المسيح وتقديس نيروذا.

هل لاحظت ذلك في المؤسسة التي تعمل فيها أو عائلتك أو شلة أصدقائك؟ كيف أن الإنسان الطيب الخلوق مستغل؟ والإنسان القذر هو القائد، وبتنا ناضجين بما يكفي لنعرف أن أسوأ طبقة في العالم هم السياسيون ورجال الأعمال، حتى كلمة سياسي باتت مرادفة للقذارة الضرورية، قمع المتظاهرين حتى نحافظ على الأمن، السيطرة على دول أخرى أضعف حتى نستغل مواردهم، من يفعل ذلك؟ القادة. من هم القادة؟ بالطبع هم أي شيء ولكنهم ليسوا مثل الشعراء أو الصوفيين أو الفلاسفة، إنهم الأغبياء، المتلاعبون بعقول الناس.

اقرأ/ي أيضًا:
الضمير التسلطي والسلطة
"البحث عن السلطة".. السلطة والفن لا يلتقيان