29-يوليو-2016

صورة لأحد مظاهرات ثورة 1919 في القاهرة

في كل تنشئة جديدة لعالم آخر، يتراجع القديم في الذاكرة، ويبهت للدرجة التي عندها يجد الناس أنفسهم يتحدثون عن تلك الفجوة الزمنية التي تفصلهم عن الماضي، الفجوة التي ليست إلا نشوء العالم الجديد نفسه.
كان سحر الحداثة الأكبر، هو توجيه الأنظار للأمام، افتراض أن هناك ما ينبغي أن يكون في المستقبل
افترض الكثيرون من رواد "النهضة الوطنية" و"الصحوة الإسلامية" حدوث فجوة بين ماض ذهبي للمسلمين/العرب، وبين ماضيهم القريب، فجوة تسببت في الهزيمة، دون أن يكون هذا القديم جزء منها، لقد تم افتراض امبراطورية عربية/ إسلامية ضخمة ومستقرة، وخالية من أي نزاعات جدية، تتأرجح فجأة، بدون أي إنذار، على وقع الاحتلال الأجنبي، رغم علم الكثيرين بعدم واقعية ذلك، خصوصًا عندما يتم الانطلاق من فرضية عن دولة واحدة مستمرة في الحضور منذ الرسول محمد نفسه، وأربك ذلك الافتراض الأخير، كل تفكير جدي في التاريخ الإسلامي.

اقرأ/ي أيضًا: الكنيسة الغائبة..أفكار عن الإسلام والسلطة

فكر الانقطاع

يمكن التأريخ للانقطاع الحضاري للعرب، بداية من سقوط الخلافة في بغداد، وإمساك المماليك للسلطة في مصر، وتكوينهم خلافة شكلية، وبالتالي كان العرب يُحكمون في قلب بلادهم من أعاجم لا ينتمون إليها، قبل أن ينتصر العثمانيون على المماليك، ويلتقطوا الخلافة بدورهم وينتقلوا بمركز الدولة الإسلامية إلى الأناضول، ليتضاءل دور العرب، شعوبًا وولايات، في الدولة الإسلامية.

لكن الانقطاع الحقيقي، لم يكن الانقطاع الحضاري الذي حدث للعرب، بل كان هذا الانقطاع نفسه بدرجة ما، ابنا لانقطاع أكبر للفكر السياسي لديهم، فقد كان المسلمون بشقيهم السياسيين الأكبر، السنة والشيعة، قد وصل كل منهم وبطريقته الخاصة إلى التنظير لانقطاع ما، السنة الذين اعتبروا كل الخلافات بعد علي بن ابي طالب، حكم متغلب وملكًا عضوضًا، يجب طاعتها، إلا أن تلك الطاعة لا تنفي كون هذا الملك انقطاع عن زمن ذهبي ما لا يمكن إعادته، لعدم وجود أي نظرية فقهية ممكنة التطبيق تتحدث عن كيفية إنشاء سلطة إسلامية مثالية، على الجانب الآخر، ورغم أن الشيعة، قد امتلكوا مثل هذه النظرية، بافتراض وجوب الإمامة في أحد أبناء علي، إلا أنهم في قسمهم الأكبر، قد وصلوا للحظة الانقطاع تلك حينما اعتقدوا بالغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر، وإذن ظلوا في لحظة انتظار أبدية لعودته ليقود الثورة ويستعيد حقه في السلطة.

 في هذه الحالة، كانت لحظة الوعي بالانقطاع، هي لحظة الوعي بضرورة التأسيس لشيء ما، تأسيس لا يعتبر أن العهد المثالي قد انتهي مع الخلفاء الراشدين بالنسبة للسنة، ولا ينتظر عودة المهدي عند الشيعة، وهو ما أتت الحداثة، ذلك المصطلح الغامض والمثير والمستخدم بألف معنى، لتحققه.

الحداثة..  حركة تقدم وتأخر نحو يوتوبيا ما

كان سحر الحداثة الأكبر، هو توجيه الأنظار للأمام وليس للوراء، افتراض أن هناك ما ينبغي أن يكون في المستقبل، أن الأمور عليها أن تذهب إلى مكان ما، وهي رؤية كلية للحياة غيرت طريقة تفكير جموع الناس فأنستهم ماذا كانوا يفعلون قبل ذلك.

لم يكن الأمر فقط "مرضًا بالغرب" أُصيب به المستعمَرون فلجؤوا لمحاولة تقليد حضارة أخرى، كان مرض انتظار اليوتوبيا، قد أصيب الغرب به ابتداء، واخترع في حركته للوصول إلى أيدلوجياته الكبرى، وكانت أزمة المستعمَرين أن يوتبياتهم المنتظرة كانت متحققة في الغرب اللاهث هو نفسه خلف يوتوبياته غير المتحققة، وبالتالي كانوا يتحركون في اتجاه جسم متحرك، ويجدون أنفسهم، كل فترة، بحاجة للقفز قفزات طويلة لعبور المسافة التي تخلقها حركة الجسم الآخر المتسارعة بدورها.

كان هذا النظر للأمام لتحقيق شيء ما، يستدعي إحساسًا بالتخلف، التخلف الذي شكل عند الغرب حقيقة طبيعية، أي أن أي واقع آني كان متخلفًا مادام التاريخ يتقدم، ومادام لم يصل لما يرجوه، لكن هذا التخلف شكل عند المستعمرين الإحساس بالرغبة في ملاحقة الغرب، ويوتوبياه.

الحركة باتجاه اليوتوبيا، كانت حركة دنيوية، وأتت في سياق منجزات علمية غيرت طريقة النظر للعالم، وواكبتها حركة نظرية لخلق صورة العالم المثالية، وبصفتهم مركز هذه الحركة، وجد الغربيون أنفسهم ينشؤون نظريات عن الزمان الخطي، الزمان الذي تتلبور حكمته أخيرًا في عين الإنسان الأخير، الإنسان الذي أتى ليحقق إرادة العقل المطلق في التاريخ، وبنشأة الزمان الخطي والتصاعدي، كان على الناس أن يتحركوا صوب هدف جماعي ما، صورة يوتوبيا ما يجب تحقيقها، وبقدر ما كانت الفلسفات الكبرى، محاولة لتأريخ حركة فعلية للمجتمعات، أو تصورًا عن هذه الحركة، بقدر ما كانت محاولة لتوجيه المسيرة نحو اليوتوبيا، وهو ما طرح سؤالًا فيه من الجدة ما يبعث على نعته بسؤال التأسيس.

أنجزت الحداثة، سحب النظر من الدنيا، الرضا الإلهي، إلى الأرض، أصبح المعيار الأرضي صريحًا ومنبئًا عن ذاته، وأصيلًا، على الداوم كانت الشرعية الدنيوية، شرعية الانجاز، متواجدة في حكم أيًا كان، لكن دون أن يكون ذلك واضحًا ومعبرًا عن نفسه، ودون أن يكون مطلوبًا منه الوصول لتحقيق شيء معين، كان الزمن يجري كمياه المحيطات، لا يريد في سريانه تحقيق شيء معين، وتغير ذلك عندما جاءت الحداثة بالفكرة التي غيرت كل شيء، مرة وللأبد، وما جوهرها إلا التقدم.

بالحركة إلى اتجاه ما، كان على الناس، أن يفكروا، بجوار تصورهم عن اليوتوبيا، في كيفية الوصول إلى هذه اليوتوبيا، لم يعد المُلك/السلطة ذاته غاية يمكن التوقف عندها، بل يجب أن يصور هذا المُلك نفسه، كوسيلة لغاية أكبر كثيرًا، وأن يكون هو تأسيسًا لإمكانية تحققها، أي أنه يجب على الحكم، أي حكم، أن يطرح خطة لشيء ما مفيد للجميع، كان ذلك الشيء قوميًا أو ليبراليًا أو يساريًا، وسواء كان لتحقيق الوفرة اللانهائية أو لاستعادة المجد الذهبي للأمة، وسواء كان هذا الطرح جادًا أو انتهازيًا بشكل تام.

وسيشكل سؤال التأسيس، محور التيارات الحديثة، وستنظر تلك التيارات في التاريخ، لتستغرب كيف لم يكن سؤال التأسيس، الذي أصبح بديهيًا جدًا، متواجدًا بالزخم الكافي في العصور القديمة، وستحيل ذلك لمجرد خلل في الوعي، أو انقطاع مريب في التاريخ، دون أن تحدس أنه لا إجابة لسؤال لم يكن مطروحا بعد، ولم يكن الجمهور الذي ينتظر الإجابة، قد ظهر في التاريخ.

فسؤال التأسيس هذا، كان وثيق الصلة، بمتغير جديد تمامًا، وهو دخول الحشود للسياسة، كفاعلين أصليين لمصلحتهم الخاصة، أو ما يتصوروه كذلك، وكان على سؤال التأسيس أن يقدم هذه اليوتوبيا لهم وأن يريهم الطريق إليها، أي أنه كان سؤالًا مختلفًا عن سؤال المدن الفاضلة القديمة، أو عن نظريات الحكم العادل التجريدية، والتي لم تكن تضع أي خطة تحقيقها وتنتظر ملكًا عادلًا، أو حتى تخطط مدنها على الرمال، وعلى عكسها، كان السؤال الجديد، يفترض أن التأسيس مشكلة آنية جدًا ويجب حلها سريعًا، ويجب توجيه الحشود إلى يوتوبياتهم التي تم افتراض أنها على وشك التحقق.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لن يصبح حزب النور "سفينة نوح" للإسلاميين؟

دخول الجمهور للسياسة

حمل المسلمون، على اختلافهم، الاعتقاد بأن شيئًا آخر، بخصوص الخلافة، كان يجب أن يتحقق ولم يحدث ذلك. كانت الأمة هناك في أذهان الفقهاء، وكان شبح أهمية بيعتها للحاكم موجود، وإن لم يعرفوا بالضبط كيف يمكن تحويل ذلك الشبح لشكل سياسي، كما كان شبح ضرورة تقويم الحاكم موجود، وإن اختفت أي إمكانية عملية له، باعتبار أن الكتلة الأكبر قد سلمت بتحريم الخروج عليه، وهي النظرية التي بالطبع لم تمنع الصراع على الحكم، ولكن حجمت أي صورة ثورية أو شعبية لهذا الصراع، وحصرت الصراع في قيادات عسكرية متنافسة أو أسر سلطانية تبيد بعضها البعض.

كان الجميع في انتظار الحداثة، لتخلق للمرة الأولى منذ التاريخ الإسلامي الأول هذه الإمكانية، دخول الأمة أخيرًا في الصراع، لكنها وكأي إمكانية في غير وقتها، تجئ لتزيد الأمر ارتباكًا وليس لتحقق الحلم القديم.

حقق نشوء المجتمع المدني الحديث، مع الأثر الطاغي للحداثة السياسية، إمكانية الدفاع عن أحقية الأمة/المواطنين في المشاركة في القرار السياسي، وسحبت الشرعية البديهية من الحُكم السلطاني، وإن لم تعن هذه الأحقية بالضرورة أن الخيار الديمقراطي قد أصبح خيارًا وحيدًا، فأي أيدلوجية أمكنها أن تلبي الطلب الجماهيري للدخول في السياسة، أو تدعي تمثيلها لروح الأمة، كانت تخلق موطئ قدم لها في المجال العام، وبشكل بديهي كانت القومية، هي الخيار الأسهل والأقرب ذلك. مادامت الجماهير ستدخل في السياسة، فلتدخل كأمة واحدة، ولذلك كانت القومية في فترات التسيس العارم للناس والمراحل الأولى للدول، أكثر نجاعة من غيرها في تنظيم الناس والقدرة على تحريكهم، وامتلك الدين تلك المقدرة أيضًا في بعض تجارب الدول، باكستان مثالها الأبرز والأكثر إثارة، ولكن بعد تحوله لهوية قومية عامة، وليس نظرية دينية فقهية ما.

ولعل ذلك هو ما جعل المجتمعات المستعمرَة تنتج في حركة مقاومتها للمستعمر، وبشكل أساسي، حسًا قوميًا حادًا، بدلًا من حس ديني صريح، كان ذلك لأنها كانت بالفعل قد تأثرت بمفهوم مستعمرها عن الأمة والناس وحقهم في الدخول في السياسة، وبالتأكيد كانت هشاشة السلطات المحلية المهزومة، وعجزها عن إعادة تنظيم صفوفها وتولي مهمة الدفاع، عاملًا رئيسيًا دفع الناس أكثر للتدخل بأنفسهم.

كانت الحداثة السياسية، بما فيها تصور الجمهور والعامة لأنفسهم كفاعلين أساسيين في السياسة وليسوا مجرد مناصرين لحاكم أو مُطالب بحق ديني معين، شيئًا جديدًا تمامًا، وقد خلقت، أخيرًا، الإمكانية المنتظرة لظهور "الأمة" كفاعل حر في اختيار "الخلفاء"، لكن في اللحظة نفسها كانت الخلافة تتهاوى، بينما كانت تنشأ إمكانات قومية وعلمانية لقيام الدول الوطنية، ذات الحدود والدستور والتاريخ المنفصل عن بقية الدول الأخرى.

مع دخول الجمهور للسياسة، صعدت معهم طبقات المثقفون/الانتلجنسيا، المتعلمين العاديين الذين أصبحت لهم نفس المكانة التي حازها "العلماء" قديمًا، لكنهم، وعكس العلماء، كانت ثقافتهم/علمهم أكثر أفقية، كما كانت مدعومة من الدول الحديثة، وقد اكتسب أبناء الجمهور، المثقفين، هؤلاء، إمكانية لقيادة هذا الجمهور الجديد، دون حاجة لتوسط مكانة دينية أو نسب ملكي معين، ما يمكن اعتباره إحدى النقاط المركزية لانطلاق شكل ما من التحول الاجتماعي الذي أسهم في خلخلة نواحٍ من العقل الجمعي لتتيح إمكانيات تصور يوتوبيا مستنسخة. 

حقق نشوء المجتمع المدني الحديث، إمكانية الدفاع عن أحقية الأمة/المواطنين في المشاركة السياسية، وسحبت الشرعية البديهية من الحُكم السلطاني

أفول الخلافة

الخلافة كدولة تحمل راية تدعي أنها استلمتها من دولة الرسول، كانت تلبي طلبًا روحيًا ما للمسلمين للشعور بالقوة والوحدة واستمرار التاريخ، وكان سقوطها يعني أن دولة الرسول الأولى، قد أضحت للأبد، ماضيًا تامًا، لكن تلك النظرة لم تكن بهذه البساطة التي رآها به الإسلاميون الأوائل.

كانت دولة الرسول، بالفعل، هي الدين ذاته، وكانت هزيمتها، وقت أبي بكر، تعني هزيمة الإسلام نفسه، لكن لم تكن هزيمة أي خلافة/سلطنة أخرى في التاريخ الإسلامي تعني ذلك. كان الإسلام غضًا وسهل المنال في بدايته، وكان سقوط حاميته المباشرة، سيحجمه ثم ينهيه، لكن ذلك لم يكن حال بقية "الخلافات"، فالخلافة سقطت أكثر مرة، وكانت سلطتها شكلية فترات طويلة على غالبية المسلمين، وفترات أخرى لم يكن يعني لها كونها تحمل راية دولة الرسول، سوى الشرعية التي يمكن تفتيت أعدائها بها، للحفاظ على السلطان الدنيوي، ونادرًا ما سيطرت "الخلافات" المتتالية على أكثر من نصف البلاد ذات الأغلبية المسلمة.

لكن الامبراطورية العثمانية، امتلكت، كما أسلفنا، صفة تميزها عن الخلافات السابقة، إذ نحت هذه الامبراطورية، العرب، ليس فقط عن الحكم، ولكن جعلت أوطانهم دول أطراف في الامبراطورية الإسلامية، وبالتالي كان بديهيًا أن يفرز احتلال هذه الدول على يد الدول الأوروبية، تذبذبًا أوليًا بين الدعوة للعودة للدولة العثمانية، كشكل من المقاومة للاحتلال، وبين الدعوة لدول وطنية جديدة، وكان طبيعيًا أن يتم حسم هذا التذبذب لصالح الشكل الأكثر عصرية، والأكثر قدرة على  تلبية رغبات جمهور في دخول السياسة الجديدة، هذا أن مقر الخلافة نفسه اتجه نحو التجربة العصرية في مآل تلك الس وفي أن يحتفظوا، بعد مقاومتهم، بحقهم في السياسة، وهو حق كان منتزع منهم يقينًا في حكم سلاطين الأتراك، الذين لا يملكون أي شرعية دينية خاصة، وإذن انتصر مكون الدعوة لدول قومية جديدة. 

بالتأكيد حاولت الدولة العثمانية مواكبة الحداثة، لكن في صلب أمتها الأصلية، الأتراك، وحدثت محاولات إصلاحية شكلية للجيش ومحاولة لإدخال شرائح أخرى للحكم بمعناه الواسع، وأنشأت مجالس شورية متعددة، وعلى هامش ذلك كان يتكون بداخلها تيار قومي جديد، يدعو لإصلاحات أكثر جذرية، وبالتالي بقدر ما كانت الأمم تنفصل عن العثمانيين، كان العثمانيين ينفصلون عن البقية، بتبلور بطئ لشعبهم الخاص.

لم تكن الخلافة العثمانية، قادرة بأي شكل، على تعبئة جماهير دول الأطراف للدفاع عنها، وكانت أعجز وأكثر شيخوخة من التعامل بمرونة مع دخول أقوام تلك الدول للسياسة، كما أنها بعجزها عن منع استعمار الدول تلك، قد أنهت أي شرعية عملية لها ب"العجز عن الدفاع عن ديار المسلمين"، وهو الدفاع الذي كان يمكنه بالتأكيد أن يمنحها وقتًا أطول للبقاء، ولكنه لم يكن ليفعل أكثر من تأخير مشكلة الأم، وهي انكسار بداهة الحكم الملكي، فمثلا قامت الثورة العرابية في مصر، في ظل بلد غير محتلة، بينما ساهم الاحتلال الذي تلا ذلك في توضيح هذا الانكسار، وليس خلقه من البداية.

بتعبير آخر، كانت الدولة العثمانية، مثل كل الممالك القديمة، دولة مستعدة للتعامل مع رعايا، رعايا ممنوع عليهم التدخل في السياسة كجموع، وليس لهم أي حق أصيل للمطالبة بأي شيء، والسلطة من جانبها لا تدع بأي شكل أنها تعمل على تحقيق حلمهم الجمعي، وإذن كان بوادر التململ داخل هذه الرعية لصالح الرغبة في التحول إلى مواطنين، سيفرز عاجلًا أم آجلًا، محاولة الانفصال عن دولة الرعاية تلك.

نشأة الأمم الجديدة

دخول الأمة/الجماهير في حديث الطبقات المتعلمة، كان يخلق هذه الأمم، عاجلا أم آجلا، كضرورة للاتساق المنطقي، كان وجود الأمة/الجماهير الحديث هذا، هو المبرر لكلام طبقات المتعلمين الجدد، من أبناء الشعب، في السياسة، وكجزء من أثر الحداثة، وإذن كان عليهم أن ينشؤوا بالوقت هذه الأمة في أذهانهم، ثم يخلقوها بالفعل على الأرض، ورغم أن البعض ظل ينادي حتى أوائل القرن العشرين بالعودة للدولة العثمانية، كشعار لرفض الاحتلال، إلا أن هذا المنطق نفسه، لم يكن صالحًا سياسيًا، إذ ما المعنى في تعبئة الناس لرفض الاحتلال، انطلاقا من روح قومية ما، ثم تسليمها لدولة أخرى بعيدة، جعلها الاحتلال الأجنبي الغربي، الذي غذت مقاومته الروح القومية، تصير في أذهان الناس هي الأخرى كإمكانية احتلالية أخرى؟!

إذًا، كانت الدعوة لأن يحكم الناس أوطانهم أكثر قدرة على التعبئة وعلى الاستمرار، خصوصًا أن الدولة العثمانية، التي نشأت بإهمال تام لأي إجابة عن سؤال الأحقية بالخلافة، لم تكن تستطيع بأي شكل، حتى لو كانت استعادت بعضًا من قوتها، أن تلبي طلب الجماهير الجديدة للدخول في السياسة كفاعلين أساسيين، ولا أن تلبي طلب النخب الصاعدة في دول الأطراف ليشاركوا في عملية التأسيس الجديدة، خاصة في ظل نشوء القومية التركية بمعناها الحديث.

الدول الوطنية، التي صاحب نشأتها محاولة خروجها من الدولة العثمانية، قبل أن تنهار الأخيرة، لتكون الدول القومية حقيقة لا يمكن إنكارها، كانت بطبيعة تكوينها تحاول خلق قوميات جديدة، تصلح كأمم لتلك الأوطان المستحدثة، لذلك، بعد التصريح بعدم الرغبة في بناء الدول لكافة المسلمين، بالانشقاق عن العثمانين، لم يعد الدين هو مانح شرعية التأسيس ولو نظريًا، بل الشعب، كفكرة، وفكرة في مهدها ضمن هذه الحالة.

 كما أصبحت فكرة مقاومة السلطة/الخروج عليها، فكرة عادية لا تستلزم كل تلك المقاومة الدينية التي تميز بها فقهاء السنة، إذ أن الحكم الجديد، الذي لم يعد قائمًا على حفظ دولة الرسول ولا على تطبيق الشرعية، لم يعد يحق له أيضًا الاستناد للتراث السني في رفض الخروج على الحاكم ليحجم معارضيه، وإن لم يعني ذلك أنه سيكون عاجزًا عن اختلاق أسباب لقمع معارضيه، فسرعان ما حلت "الخيانة/العمالة"، وهي فعل سلبي موجه ضد الأمة، محل "الخروج من الدين/الزندقة"، والذي كان فعل سلبي موجه للدين نفسه، أصل الشرعية.

الدول الوطنية ستخلق أمة أصغر، ومن بين تلك "الأمة" المصغرة المنفصلة عن أمة أكبر، أي أمة الإسلام، ستصعد حركات جديدة، هي ابنة الأمة الجديدة التي ترى لنفسها حقًا بديهيًا في إبداء رأيها السياسي وفي معارضة الحاكم، كابنة للدول الوطنية الحديثة، لكنها ترجو أن تنجح في أن تتحول بالوقت إلى تلك الأمة الكبيرة، والتي كان حكمها لا يعترف لتلك الحركات نفسها، بأي حق في المعارضة، ولا بدخول الأمة إلى السياسة من البداية.

حكم السلالات الجمهورية

بدخول الجمهور للسياسة وتشكل النخب المثقفة الراغبة في تكوين إجاباتها الخاصة عن التأسيس وبنشأة الأمم الجديدة، كان الخطاب السني الكلاسيكي عن تحريم الخروج على الحاكم، وشرعية الحاكم المتغلب، قد أصبح متقادمًا، خصوصًا في الدول التي نشأت فيها هوامش ديمقراطية على خلفية نضالات وطنية تحررية، قبل أن تتحول لجمهوريات شكلية، ونتيجة لهذا التقادم، لم يعد للدين إجابته الخاصة عن السلطة أو تبريرها، أي لم تعد النظرية السنية المبسطة عن حرمة الخروج صالحه للحياة، كما أن إجابته لم تعد لها نفس المركزية القديمة، بدخول القومية كأساس للدول الجديدة، وعليه وجدت الشرائح المحافظة من النخب الجديدة الصاعدة، نفسها مضطرة لتقديم إجابات جديدة لسؤال السلطة، إجابات لم يعد ممكنًا أن تقتصر فقط على تحريم الخروج، إذ أن تلك الشرائح كانت هي نفسها جزء من النخب الجديدة الراغبة في الاقتراب من السلطة، وفي المشاركة في هذا الشئ الجديد الذي يتكون.

كان تكَون الهوامش الديمقراطية داخل الملكيات، أو تحولها لجمهوريات شكلية، يعني أن الخطاب الكلي الذي كان الإسلام السني جزء منه، والذي يتعلق بالأساس بالحكم الوراثي المتغلب، أصبح عليه مواكبة هذا الحدث، أن يحاول هو أيضًا، الدخول للمجال العام الجديد لكن هذه كانت معضلة دون حل حينها.

لم يكن الإسلام، السني والشيعي، يمتلك أي إجابة على أسئلة التأسيس الجديدة، الإسلام السني من جهة جوهر نظريته في الحكم هو أهمية الدولة وكراهية الخروج على أي حاكم، وجوهر الإسلام الشيعي المطالبة بعودة الإمامة لآل البيت، الذين أصبحوا ممثلين في إمام مجهول مختفي منذ قرون طويلة، وأدعياء الشرعية لحكم الجماهير باسم غيبته كثر، أي اشتركت النظريتان في شرعنة الحكم الوراثي، ويزيد على ذلك أن كلا النسختين، بالطبع، لم تكونا تمتلكان أي تصور يوتوبي دنيوي، ولا ادعاء بذلك.

صحيح، أن كلا النسختين، امتلكتا تصورًا غامضًا عن يوتوبيا نهاية العالم، سواء بظهور المهدي عند السنة، أو ظهور الإمام الثاني عشر"المهدي"، أيضًا، عند الشيعة، إلا أن تلك التصورات أتت في سياق تصور نهاية العالم قبل يوم القيامة، ولم تكن تصلح لتأسيس شيء دنيوي يرى أنه سيحقق نهاية التاريخ، بمعنى أنه سيحقق للبشرية، وللأبد، عالمها المثالي، الذي ستحيا فيه، وليس الذي ستغادر منه الدنيا.

وعليه كان على الأفندية ذوي الميول الأكثر محافظة، أن يقوموا بمهمة مزدوجة، محاولة الإجابة على سؤال التأسيس انطلاقًا من الدين، وتتجاوز الإجابة القديمة للدين في نفس الوقت، أي كان عليهم أن يخترعوا، من البداية، ما سيصبح، بمرور الوقت، الإسلام السياسي.

إسلام جديد؟!

يقصد بالإسلام السياسي هنا هو نسخة الإسلام المسيسة، التي حاولت، مرتبكة، التعامل مع أسئلة الحداثة عن ضرورة التأسيس لدولة في اتجاه تحقيق اليوتوبيا الأرضية، ونقلت نظرة الدين نفسه من السماء إلى الأرض، واستفادت من دخول الجماهير في السياسة، لتحاول تنظيمهم لإعادتهم مرة أخرى إلى الأمة الأكبر.

يقصد بالإسلام السياسي نسخة الإسلام المسيسة، التي حاولت، مرتبكة، التعامل مع أسئلة الحداثة عن ضرورة التأسيس لدولة لتحقيق اليوتوبيا الأرضية

وجدت التيارات المحافظة التي دخلت السياسة مع الناس، نفسها مضطرة لترك نسختها القديمة من الإسلام، لصالح اختراع نسخة جديدة، لم تكن، لجدتها، واضحة تمامًا في أذهانهم، ولذا ستخوض تلك التيارات مشوارًا طويلًا قبل أن تنجح في خلق الإسلام السياسي كما نعرفه الآن.

ولم يكن غريبًا أن تخرج المحاولات الأولى لخلق هذا الإسلام الجديد من مصر، أي من بلد كانت قد تكونت فيه بالفعل طبقة من المثقفين الذين يتحدثون في السياسة، واحتلال أجنبي لم يلغ الحياة السياسية بشكل كامل، وهوامش ديمقراطية على حكم ملكي، كما، وهو الأهم، أن يتم خلق الإسلام السياسي هذا، وفي هذه البلد، بعد ثورة 1919، أي بعد إعلان الجمهور بالفعل دخوله في السياسة.

من الصحيح، أن دولًا إسلامية أخرى، وجدت فيها تنظيمات صوفية مقاومة، أو حركات إسلامية دعوية حديثة، إلا أنها في غالبيتها، ولعدم توافر هيكل واضح للدولة الحديثة وأسئلتها عن التأسيس واليوتوبيا، لم تكن قادرة على صياغة إجابات واضحة، ولذا تمتعت الحركة الإسلامية في مصر، من اللحظة الأولى، بميزة الأسبقية التي خلقت لهذه الحركة وهذا البلد، مركزية داخل تلك الحركة التي ستتكون بتسارع أبطأ في الدول الأخرى.

هنا وجد كل من الإسلام السني والشيعي، أنفسهم مضطرين في عملية خلق الإسلام الحديث، ضمن حقل  المعنى السياسي، إلى الانطلاق من فكرة ضبابية عن أهمية خلق الدولة الإسلامية، وإلى استنطاق الإسلام ليجيب عن كيف يمكنه أن ينافس الأيدلوجيات الحديثة، ليخلق يوتوبيا دنيوية،  من ثم إلى الاستعارة من تلك الأيدلوجيات لتغطية العجز البديهي للدين، الذي لم يدع أصلًا أنه جاء لتحقيق الوفرة الاقتصادية في الدنيا، في تلك المناحي، كما وجدت تلك التيارات نفسها تنحي فكرة شرعية الحاكم المتغلب دون أي نقاش مطول في ذلك، إذ أن دخولها للسياسة من البداية، كان معناه الانتقاص من هذه الشرعية، كما وجب على الإسلام الشيعي أن يحل معضلة غيبة الإمام، ليمتلك الشيعة بأنفسهم رخصة التأسيس بدلا من الإمام الذي لا يظهر، أي كانت قد حانت لحظة إنهاء الغيبة الكبرى. كان على كل من الإسلام السني والشيعي، أن يتبدلا تماما لكي يحتفظا بمكان في الساحة لأنفسهم.

متحف الإسلام السني القديم

في موازاة كل التغييرات المتصاعدة داخل الإسلام السني، والتي ستغيره للأبد، كانت تُخلق الدولة التي ستحفظ داخلها، لأسباب سلطوية خالصة، الصورة التاريخية للإسلام السني: السعودية.

الدولة السعودية المنشقة عن دولة الخلافة العثمانية، والتي تمثل، سلطة ملكية تقليدية تمامًا، ودون أي ادعاءات بشرعية حداثية ما، أي دون أي وعود بتحقيق أي يوتوبيا، ودون رغبة أصيلة، في تكوين هوية وطنية ما، أو أمة جديدة، كانت في حاجة للحفاظ على المذهب السني في السلطة، لأن هذه النسخة من الإسلام، كانت هي الوحيدة القادرة على إعطائها شرعية ما، شرعية الحكم المتغلب، الذي لا يدعي أي أصالة دينية، أي أي حق تاريخي أو إلهي في السلطة تلك العائلة، ويتخذ من الفقه السني، حجة لقمع أي مخالف له، باعتبار الخروج على الحاكم ضد المذهب، وإن لم يمنعهم ذلك طبعًا من الخروج على العثمانيين. 

بالتأكيد، لم تكن الدولة السعودية دولة إسلامية تقليدية تمامًا، ولكنها تحولت لذلك بانتصارها، فقد كانت بالأساس ابنة حركة خروج إسلام سني على الحكام، في سابقة في تاريخ السنة، أن يتم خلق حركة دينية تعي سنيتها تمامًا، بل وتنطلق منها، ولكنها تقاوم الحاكم لأسباب دينية خالصة، أي لما ارتأته من ابتعاد المسلمين عن الإسلام الصحيح في نظرها، وفي تحالفها مع الأسرة السعودية، كانت سلمت بأسس عدم الخروج على الحاكم الجديد، لكن ورغم جدة الظاهرة الوهابية على السنة، إلا أنه بانتصارها مع السعوديين، ونجاحهم معًا في إنشاء مملكتهم الخاصة، انطفأت روحها الخارجية، لتعود لأصلها السني القديم، وإن كان المكون الخارجي هذا سيعيد الالتحام بالإسلام السياسي بعد عقود طويلة.

وسيشكل ذلك المذهب المجمد داخل مملكة وراثية بلا أمة جديدة، على الأقل بشكل خطابي، ستتحول بالوقت لدولة شديدة الثراء، أحد الروافد الأساسية التي ستجذر من الإسلام السياسي، وستعيد صياغته بشكل يتعارض أكثر وأكثر مع الدولة الحديثة، كما ستشكل الدولة السعودية، التي ستنشر مذهبها الوهابي بحماسة، نموذج غريب إذ أنها وهي ترفض خلق أمة جديدة، لن تتوجه أيضا إلى أي أمة أكبر، ولا ترغب في أي توسع خارج حدودها، ولا في أي تصدير لنموذج دولتها، فهي لا تمتلك أي نموذج، مجرد حكم عائلي متغلب، متحصن بتحالفات دينية وثروة نفطية، ولا يمتلك أي شيء يقدمه للعالم، وهو قديم بمعنى أنه ولعقود طويلة، سيظل مثل كل السلطنات القديمة يحرم "رعيته" من الدخول للسياسة والتحول إلى مواطنين، حتى لو بشكل انتهازي كامل، بل وسيوقف تحولهم إلى أمة مختلقة جديدة كالآخرين، ولذلك ستتمتع تلك الدولة الغريبة والقوية، والتي ستظل تطبق الشريعة بمفهومها القديم، لحماية شرعيتها، بأثر مربك وهدام على كل المحاولات التحديثية للدين من داخل الطبقات المحافظة، لأنها ستبقى دليلًا على كون تلك القوانين المتقادمة والمبررات السلطوية الوراثية، أي صورة الإسلام السني التاريخي، أو بتعبير أكثر دقة، الصورة التي تسوق نفسها كصورة الإسلام السني الأصلية، مازالت صالحة للبقاء في العالم الجديد.

اقرأ/ي أيضًا: 

كيف تحاول السلطة المصرية ملء فراغ الإسلاميين؟

ماذا يعني انهيار جماعة الإخوان؟