24-نوفمبر-2017

راتكو ملاديتش في محكمة الجنايات الدولية (رويترز)

أدانت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، مجرم الحرب الصربي، الجنرال راتكو ملاديتش على اثنتين من جرائمه في البوسنة، وحكمت عليه بالسجن المؤبد. لكن المحكمة تجاهلت عشرات المذابح والجرائم الأخرى التي ارتكبها راتكو ملاديتش الذي رغم هذه الإدانة "انتصر، مُحققًا مراده في النهاية"، كما أشارت صحيفة الغارديان البريطانية في مقال ننقله لكم مترجمًا في السطور التالية.


سيموت الجنرال راتكو ملاديتش -أكثر أمراء الحرب وحشيةً وتعطشًا للدماء على الأرض الأوروبية منذ الرايخ الثالث- في السجن، لم يكن من المعقول صدور أية نتيجة أخرى غير الحكم الذي صدر ضده في لاهاي.

أُدين الجنرال الصربي راتكو ملاديتش على المذبحة الجماعية في سربرنيتسيا، بالسجن المؤبد، من قبل المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي

ولأمهات أكثر من ثمانية آلاف رجل وطفل قُتلوا مذابح جماعية بسربرنيتسيا خلال خمسة أيام، في صيف 1995؛ كل الحق في أن يفرحن بالحكم المؤبد وإدانة ملاديتش بالإبادة الجماعية، وهو المعيار القضائي الوحيد التي يمكن تصنيف هذه الجريمة طبقًا له على الحقيقة.

اقرأ/ي أيضًا: دماء سربرنيتسيا لم تجف.. إدانة "جزئية" لهولندا في المذبحة

لكن رغم ترحيب كل منظمات حقوق الإنسان والمحامين، لازالت هناك سحابةٌ سوداء تُخفِي أسفلها معظم الناجين من إعصار ملاديتش العنيف، حيث حياتهم وبقايا من ذكريات عن أولئك الذين قُتِلوا أو ما زالوا مفقودين حتى الآن.

شهدتُ ضد راتكو ملاديتش ونظيره السياسي رادوفان كاراديتش، وسبعة متهمين آخرين في لاهاي؛ لأقدم أدلة على شبكة معسكرات الاحتجاز التي كشفتُ عنها في هذه الصحيفة عام 1992، إلى جانب طاقم من قناة "ITN"، وسلسلة المذابح الجماعية والتطهير العرقي والاغتصاب والتدمير التي تلت ذلك لمدة ثلاث سنوات دموية.

واليوم، قضيت بعض الوقت على الهاتف مع ناجين. وبخلاف أولئك الثكالى جراء مذبحة سربرنيتسيا لم يشارك أحد في الاحتفال بإدانة راتكو ملاديتش.

إحدى مُعسكرات الاحتجاز في البوسنة التي كُشف عنها عام 1992 (ITN)
إحدى مُعسكرات الاحتجاز في البوسنة التي كُشف عنها عام 1992 (ITN)

واجه راتكو ملاديتش تهمتين بارتكاب مذابح جماعية، واحدة في سربرنيتسيا، والتهمة الأُخرى تخص ما ارتكبه في بلدات بوسنية أُخرى، حيث وقعت سلسلة من الأعمال الوحشية من قِبل قوات تحت قيادة ملاديتش المباشرة خلال تلك السنوات، بينما وقف المجتمع الدولي متفرجًا، وربما أسوأ من مجرد متفرج. 

وشملت مذابح راتكو ملاديتش مزيدًا من القتل الجماعي والتعذيب والتشويه الجسدي والاغتصاب في معسكرات أومارسكا وترونوبولج وكريتيم، في شمال غربي البوسنة. وإلى الشرق قليلًا في فيشيغراد، سِيق المدنيون ومن بينهم أطفال رُضع، إلى بيوتٍ لإحراقهم، أو إلى أسفل الجسور لقتلهم بالرصاص أو تقطيعهم إلى قطع وإلقائهم في نهر درينا. ثم كانت هناك عمليات تدمير كاملة لعددٍ لا يُحصى من البلدات والقرى، وتطهير كل من ليسوا من الصرب عبر القتل أو الترحيل، وهدم المساجد والكنائس الكاثوليكية، وجمع النساء والفتيات واغتصابهن طوال الليل كل ليلة.

لم يدن ملاديتش سوى على مذبحتين فقط، فيما تجاهلت "الجنائية الدولية" عشرات المذابح والجرائم التي نفذها في البوسنة!

لكن العجيب في الأمر، أنّ أيًا من هذه الجرائم لم يُوضع ضمن قائمة المذابح التي اُدين راتكو ملاديتش بسببها، ما يطرح سؤال هامًا: ماذا تُعتبر هذه الأحداث إذن إن لم تكن جرائم؟!

اقرأ/ي أيضًا: بعد عقدين من مذبحة سربرنيتسيا.. وكأن شيئًا لم يكن!

من بين من كانوا في المحكمة الجنائية بلاهاي لسماع الحكم ضد راتكو ملاديتش، كانت كليما دوتوفيتش، الناجية من معسكر ترونوبولي، بينما كان زوجها في معسكر أومارسكا، وفقدت العديد من أفراد عائلها الممتدة وجيرانها أثناء هدم بلدتها كوزاراك في 1992. "الأمر محبط لكنه ليس مفاجئًا. ربما لم يريدوا تسميتها بالمذابح الجماعية لأنها حدثت تحت أعين المجتمع الدولي الذي كان من المفترض أن يحمينا. أيًا يكن، أتمنى أن يقوم المؤرخون بعملٍ أفضل من هؤلاء القضاة"، قالت كليما دوتوفيتش.

من بين المهازل، أو المفارقات الشنيعة التي حدثت أثناء المسيرة الطويلة للمحاكمة، هو اعتقال واحدة من ضباطها الرسميين السابقين في 2015، المدعوة فلورنس هارتمان، بسبب تغطيتها الصحفية اللاحقة لمذبحة سربرنيتسيا، مع قائمة بالمواد التي تحوزها المحكمة. هارتمان التي شاهدت من زنزانتها ملاديتش يمارس التمرينات الرياضية كل يوم، تُدلِي اليوم بملحوظةٍ مهمة تقول فيها: "لم تحدث مذبحة جماعية في التاريخ في خمسة أيام فقط. المذبحة الجماعية عملية مستمرة".

تشير إلى أنه بخلاف الأحكام الأخرى فإن دور صربيا نفسها تم تجاهله: "جرّد الحكم المذبحة من أيديولوجيتها وتاريخها وسياقها الدولي".

واحتفت منظمة هيومان رايتس ووتش بالحكم على راتكو ملاديتش باعتباره يرسل رسالة إلى "أولئك الذين في السلطة حول العالم، والذين يرتكبون أعمالًا وحشية سواء في بورما أو كوريا الشمالية أو سوريا"، في الوقت الذي بدأت فيه التحضيرات لمحاكمة جرائم الحرب في سوريا. لكن من تحديدًا سيخضع للمحاكمة؟ راتكو ملاديتش هو أمير حرب ويُفضل أن يكون مسجونًا بدلًا من أن يكون حرًا.

كان المطران، ديزموند توتو، محقًا في تساؤله: أين توني بلير عندما يتعلق الأمر بالمحاسبة على خراب العراق، والذي يجب أن يكون ضمن قائمة تضم ديك تشيني ورامسفيلد وآخرون؟ هل ستُجرَّد العدالة في سوريا على نفس المنوال لتستبعد الأسد وبوتين وأيًا من كان في الحكم من حلفائنا في السعودية الذين يُسلحون تنظيم الدولة الإسلامية ويقصفون اليمن؟ هل يجب أن نتوقع محاكمة محبوبة حركة حقوق الإنسان السابقة أونج سان سو كي (رئيسة وزراء ميانمار)؟

الإحالة إلى محكمة لاهاي كانت قضائية في جزءٍ منها، وأيضًا لتُعزز المصالحة في البلقان. حسنًا، ليست هناك أية مصالحة. راتكو ملاديتش حصل على ما أراده: دويلة الصرب البوسنية التي نفي منها كل من ليس بصربي في عام 1995، ولم يعد إليها سوى القليل ممن تحلى بالجرأة. راتكو ملاديتش معشوق الجماهير الذي تُعلق صوره على جدران البارات والمكاتب في البوسنة وصربيا ويُتغنى باسمه في مباريات كرة القدم!

الحكم على ملاديتش بالسجن المؤبد لا يساوي شيئًا أمام الجرائم الفظيعة التي ارتكبها تحت أعين المجتمع الدولي

حتى المدعي العام في لاهاي سيرجي براميرتز، اعترف أن: "الصراع والأعمال الوحشية يكون لها منطق خاص بها أحيانًا"، والحياة في البوسنة الآن طائفيةً أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب، كل الأطراف تقبع في نطاقٍ مريح من كراهية الآخر، وهو أمر بالمناسبة مربح ماليًا للطبقة السياسة التي تقودهم جميعًا. راتكو ملاديتش بالتأكيد رجل غاضب، لكنه يستطيع البدء في تنفيذ الحكم بشعور بالرضا بأن المهمة التي أرادها تحققت بشكل كبير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وثائق مسربة: رشاوى الإمارات وحفتر تؤثر على القرار الدولي في ليبيا

هربًا من العقوبات.. بوتين ينسحب من محكمة الجنايات