30-سبتمبر-2023
حروفية لـ حبيب فرج آبادي/ إيران

حروفية لـ حبيب فرج آبادي/ إيران

في كلاسيكيات الفكر السياسي اعتقادٌ يذهب إلى أن إصلاح الفرد يؤدي إلى إصلاح المجتمع، وهو اعتقادٌ مدعوم بالنصوص الدينية. ولكن مع تطور الفكر السياسي وازدياد تعقيدات المجتمع، شاع اعتقادٌ آخر مفاده أن الفرد مُسيّرٌ بعادات المجتمع وأساليب عيشه ونظم أخلاقه وعاداته، وأنه لا جدوى من تغيُّره ما لم يُغيِّر المجتمع الذي يحتضنه، والمجتمع لن يتغيَّر ما لم تتغيَّر الأنظمة والقوانين. وهكذا تحوّل الفرد من متهم إلى ضحية ينشد الخلاص من قوالب السلطة وعيونها التي تطارده حتى في غرفة نومه، فكل شيء خارج عن إرادته، ولم يبقَ عنده غير تشرّب الإيمان بالقضاء والقدر المحبذ سلطويًا! 

لم يكن الفرد المثقف في منأى عن هذا التغيير، إذ انتقل من أعلى الهرم إلى أسفله. كان كارل مانهايم يحلم بأن يقوم المثقف "المنخلع" بتركيب الأفكار المتنوعة، المتضاربة والمحدودة، في أوجه الهرم الاجتماعي المتعددة.

إن إيجاد بنى سياسية حديثة تتجاوز إرث السلطة التقليدية يلزمه بناء هيكل سلطوي متوازن ومتطور يتناسب مع البناء المؤسسي الحديث

أما اليوم، فإن المثقف يواجه معرفته الجزئية الضئيلة باستسلام، مدركًا أن المعرفة الكلية أو المركبة لا تتحقق إلا عبر المؤسسات. وأن تزاوج المعرفة والمؤسسة يولد الخطاب، بالمعنى الفوكوي، كما يولّد ما نعته فوكو بـ: "سلطة المعرفة". وهنا، وكما يعتقد فالح عبد الجبار في كتابه "الأحوال والأهوال" تضاءَل دور المثقف الفرد، وسُلِّعت الثقافة وتحولت إلى قطاع إنتاج يرتبط بالسوق، مما يفتح المجال لرواج سلع الثقافة الدُنيا.

وعلى صعيد علم النفس، تخبرنا نظرية "النوافذ المحطمة" لجيمس ويلسون وجورج كيلنج أن الإنسان قادرٌ على الانضباط والالتزام بالقوانين والآداب العامة متى ما توفرت له البيئة المشجعة على ذلك، لكنه سرعان ما يتخلى عن هذا الالتزام متى ما رأى الانفلات من حوله. هذه النظرية أعطت درسًا للأنظمة السياسية دفعها إلى تغيير القوانين الإدارية التي تضبط سلوكيات البشر. 

إذًا، وبناءً على ما سبق، فإن المؤسسات الاجتماعية تؤثر على السلوك السياسي لأفراد المجتمع، ومن المؤكد أن المؤسسات السياسية للدولة لها التأثير الأكبر. ووفق البنى والعناصر، فإنها تلعب أدوارًا متباينة في ضبط سلوك الأفراد، والضبط الاجتماعي عمومًا.

وكلما تقّدمت المجتمعات، تفقد هذه المؤسسات دورها في عملية الضبط إذا لم تحدث تغيرًا أو تحولًا يتلاءم مع تطورات المجتمع ومتطلباته، حيث نرى في المجتمعات المتقدمة تضاءل دور المؤسسات الدينية والأسرية في التأثير بالمجتمعات وحياة الأفراد بعد أن كانت لها الريادة في تنظيم سلوك الأفراد وعملية الضبط الاجتماعي، وتحديد أهداف المجتمع.

وكانت نتيجة ما سبق ظهور فكرة العلمانية، التي ترتكز على قضية فصل الدين عن الدولة، الأمر الذي ألقى بظلاله على سلوك أفراد المجتمع، وهذا الانعكاس أدى إلى انحسار التأثير الديني والقبلي، وبرز التخصص وتوزيع العمل كأحد أركان الدولة المدنية.

ووفق هذه العلاقة الطردية، فمن المؤكد أن المجتمعات النامية يبرز فيها دور المؤسسة الدينية والأسرية والقبلية، وهذا الثالوث يشير إلى الانتماء الاجتماعي الذي غالبًا ما يعكس قيمًا دينية وقبلية يتسرب من واقع هذه المؤسسات وينعكس على السلوك السياسي، لا سيما إذا كانت قيمها في نظر الفرد أكثر قدرة على الاستجابة لمطالبه من القيم الشاملة، مما يجعل ولاء الفرد لتلك القيم أعلى من قيم المجتمع الشاملة، ومرد ذلك إلى عجز الأنظمة السياسية عن إيجاد قيم موحدة لعموم المجتمع تعكس انتماءه الاجتماعي، على عكس المجتمعات المتقدمة التي يكون فيها الولاء للدولة، ومرد هذا الولاء إلى قدرة النظام السياسي على تطوير بنيته وطبيعة تعامله وقدرته على تلبية مطالب أفراد المجتمع وحل مشاكلهم.

 يقول عبد الإله بلقزيز إن: "القوة الحقيقية للدولة هي القوة غير المادية، هي قوتها الأخلاقية وقوتها الإنجازية هي التي تحقق بها الدولة الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي وتضمُنهُما". 

إذًا صار واضحًا أن تحديث المجتمع السياسي الذي يعد غاية التنمية المستمرة، يتمثل في بناء دولة عصرية تشيّد أركان وحدة المجتمع، ويسودها التجانس الوطني، وتحقق المصالح المشتركة. وهنا تتحقق الانتماءات للدولة عن طريق تطوير البنى والمؤسسات، وهذا ما يذلل الصعاب أمام مشاركة المجتمع، وتقدم الحلول للأزمات التي تعصف بالمجتمع وتهدد استقراره.

ويمكن أن نعيد فقدان الاستقرار السياسي إلى غياب المتحد السياسي والمساواة في المشاركة السياسية، فحينما يحدث تغيير اجتماعي ويزيد الوعي السياسي، تزداد المطالب والضغوط في المشاركة السياسية. وهذه التغيّرات من شأنها أن تقوض السلطة السياسية والمؤسسات التقليدية، مما يجعلها أمام اختبار لإيجاد مؤسسات حديثة تجمع بين الشرعية والفاعلية.

لذلك فإن مشكلة السياسة الأولية هي التعثر في آلية تطوير المؤسسات السياسية بما يتلاءم مع التغير الاجتماعي والاقتصادي، فالتخلف عن هذا التحديث يجعلها تصدّر الأزمات لا الحلول، ومن هذا الانسداد تنبثق الحركات الاحتجاجية المناهضة للنظام السياسي. فمشروع بناء الدولة عملية تكاملية ينبغي أن ينتج عنها تغيّرات جذرية في بنية المجتمع، والنظام السياسي، وإعادة هيكلته وفقًا للدول العصرية ذات المؤسسات المستقرة، التي تحمل سمة الرفاهية الاقتصادية والعدالة التوزيعية، والربط الذي يجمع بينهم هو الدولة الموحدة والهوية الوطنية وصون كرامة المواطن. أي أنّ إيجاد بنى سياسية حديثة تتجاوز إرث السلطة التقليدية يُلزمه بناء هيكل سلطوي متوازن ومتطور يتناسب مع البناء المؤسسي الحديث.

وهذا يُنتج تعقيد هيكل الدولة، فمشكلات العصرنة والتطور متأصلة في الحاجة إلى إيجاد تنظيمات أكثر فاعلية وأفضل تكيفًا وأكثر تعقيدًا وعقلانية، والاختبار الأساسي للتطور هو مقدرة الشعب على إيجاد أشكال تنظيمية كبيرة ومعقدة ومرنة والمحافظة عليها.

يتمثّل تحديث المجتمع السياسي في بناء دولة عصرية تشيّد أركان وحدة المجتمع، وتحقق المصالح المشتركة، ويسودها التجانس الوطني

وهذه الأشكال التنظيمية التي تتمتع بالمرونة والتعقيد تمنع بدورها تلك البنى التقليدية التي تمرد عليها المجتمع. فنجاح الاجتماع السياسي يتوقف إذًا على أعمال المؤسسات السياسية. فلكي يكون المجتمع متحدًا لزمَ أن تمارس كل جماعة سلطتها عن طريق المؤسسات السياسية، التي بدورها تلطف وتعدل وتعيد توجيه تلك السلطة. وهنا تتحقق قوة الهيمنة الاجتماعية الواحدة، وهي منسجمة مع تجمع الأكثرية حول المصلحة المشتركة والاتفاق العام حول القانون والرغبة في المشاركة.

وبطبيعة الحال، فإن النظام السياسي في المجتمعات التي في طريقها للحداثة وهجرها للنمط التقليدي، يواجه عدة أزمات تُبيِّن لنا طريقة تعامله معها قوة بِنيته أو مرونتها وهشاشتها أو جمودها، وتكشف كذلك فلسفته السياسية، وبتعبير غابريل الموند: "قدرته الاستجابية التي تعبر عن العلاقة بين مدخلات النظام ومخرجاته وإمكانية قدرته على الاستجابة للظروف والأوضاع المتغيرة والتي تتطلب استجابة وتفاعل".