22-يوليو-2021

رسم لـ محي الدين اللباد من كتاب قاموس الكائنات الخرافية

1

ربما ظهرت الأجيال الأولى من الكائنات على الأرض ضخمةً لكي تتساوى مع ضخامة الكوكب نفسها، لكنها راحت تصغر مع الوقت لأن الأرض، أغلب الظن، أدركت أنه لا يحق لأحد أن يصبح ضخمًا دون وظيفة كبرى يقوم بها، والحيتان من الأحياء الأقلاء الذين احتفظوا بهذا الامتياز، كونها مفتاحًا أساسيًا في حياة المحيطات.

هكذا صغُرت الكائنات وظلت السهول والبحار على اتساعها، وظلت الجبال على ضخامتها وعلوها، وبسبب هذا راحت القصص البشرية تمتلئ بحيوانات ضخمة على الدوام: التنانين، العنقاوات، الرخ.. لتكون دلالاتٍ رمزيةً على عظمة الأبطال البشريين الصغار الذين هزموها أو سخّروها لأغراضهم رغم ضخامتها.

الطفل هو الحيوان الباقي فينا. ففي مراحل ما قبل الوعي والنضج واللغة، نكون على اتصال مباشر بالحيوان سلوكًا وفكرًا

ولعلنا الآن نفهم ليس لماذا فعلنا ذلك في القصص والأساطير، بل لماذا نظلّ نفعله حتى يومنا، لأن تاريخنا الثقافي لا معنى له دون وضعه في منافسة مع الجبال والبحار والأنهار، ودون أن يشكّل محاكاة رمزية لا للأجيال الأولى من الأحياء، بل للأرض نفسها.

 

2

الطفل هو الحيوان الباقي فينا. ففي مراحل ما قبل الوعي والنضج واللغة، نكون على اتصال مباشر بالحيوان سلوكًا وفكرًا. الطفل الذي لا يستطيع تمييز الخير من الشر، الجيد من السيئ، المسموح من الممنوع.. هو حيوان وجد نفسه في عالم غريب عليه التعرّف عليه بحواسه، ليأتي بعد ذلك، رويدًا رويدًا، النضج والانتقال إلى التأنسن.

اقرأ/ي أيضًا: الانتقام وفرشاةُ الأسنان الواحدة

ليس استثناء ما يُقال عن ذكاء الأطفال، فكل الحيوانات التي يشبهها لديها أشكال مختلفة، بدرجات متباينة، من ذلك الذكاء الذي يغدو مدهشًا عند الكلاب والخنازير والدلافين والقردة.

الناس المفتونون بذكاء أطفالهم يمثّلون انقطاعًا عن الطبيعة، وربما عن الاجتماعي الإنساني أيضًا، فكأنهم لم يروا ذكاء حيوان أو إنسان من قبل، أو لعلهم أنانيون لا يريدون أن يروا ذلك ما دام لا يخصهم.

كل ما يفعله الأطفال شرّ. كل ما يطلبونه شرّ.

سيكون ذلك مفهومًا لو ربطنا بين الشرّ والحاجات الأنانية التي نفعلها مهما تسبّبت بأذى للآخر. مثالنا في ذلك: الرضاعة، حيث لا يبالي فم الرضيع بما يتركه على حلمات الأم من ألم إن كانت لديها حساسية ما. وأيضًا في لعب طفلين أحدهما يملك لعبةً، إذ يقوم الآخر بضربه بلا رحمة ليأخذ ما يظن أنه يجب أن يكون له وحده.

هذا هو الشر الجميل الذي نحمله متباهين به، وليس لنا أن نعتبره واقعًا في نطاق الشرّ الرسمي ما لم يصدر عن أشخاص بالغين.

كلنا أشرار كوننا كنا أطفالًا، لكن النظر إلى الشر على أنه مرتبط بالبلوغ هو التأكيد على أن شرط الشرّ الأساسي هو الوعي والإدراك. وأن الشرّ الغريزي ليس شرًّا. على الرغم من الشر المفكَّر فيه تطوير وتصعيد له، وعمل يستند على أساس وأصل واضحين.

 

3

لم تعد الحياة المعاصرة قادرة على إتاحة الفرصة لمعاينة المصير النهائي للبشر، وذلك لأنّ هذه الحياة قائمة على علاقات الصداقة والقرابة البسيطة (الأب والأم)، إلى جانب علاقات العمل أو الدراسة.

هذه الحياة الضيقة لا تسمح لنا بأن نشهد مراسيمها الكبرى: الولادة والموت!

في الماضي، أتاحت ولادة الأمهات في بيوتهن بحضور الأطفال نوعًا من الطقس الاحتفالي بالميلاد والمولود، وبعدما صار الأمر يحدث في المشافي تراجع الاحتفال بطقس الحياة

في الماضي، أتاحت ولادة الأمهات في بيوتهن بحضور الأطفال نوعًا من الطقس الاحتفالي بالميلاد والمولود، وبعدما صار الأمر يحدث في المشافي تراجع الاحتفال بطقس الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف ننجو هذه المرة؟!

والمثل حدث للموت. العائلات الصغيرة، قوام هذه العصر، لا تجعل المرء يصادف موتًا كثيرًا في حياته الشخصية، ربما عدة أشخاص فقط، فيما يأخذ الأمر نفسه مستوى آخر مع الجماعات الكبرى التي يجعل تعدادها وعديدها الموت ذا حضور راسخ في الحياة اليومية.

من أجل هذا وذاك، وغيرهما أيضًا، الحياة القديمة مفتاح لفهم الحياة نفسها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مغادرة الجماعات

الذين ترسلهم إلينا البراري