18-ديسمبر-2022
غرافيتي في المارتينيك

غرافيتي في المارتينيك

بخلاف ما يدعي مناضلون بيئويون لا يتجه مسار البشرية إلى السيطرة على الطبيعة. في حقيقة الأمر هذه خرافة غذتها الفلسفات التاريخية المتعاقبة منذ قرون، لكنها لم تكن حقيقة وواقعًا أبدًا في أي يوم من الأيام. تاريخ البشرية هو نضال في مواجهة الطبيعة التي تنجح في هزيمتنا دائمًا. ويمكن تعقب مسار تاريخ البشرية عبر تعقب تاريخ الابتكارات في وسائل الحفظ والحماية. البشر بنوا بيوتًا لأنهم كائنات عاجزة عن مواجهة الطبيعة في عرائها، وابتكروا ثيابًا لأنهم لا يستطيعون مواجهة غوائلها عراة. وحين تقدموا في مجالي العلوم والتقنيات، اخترعوا أقنعة لتحمي أنفاسهم من الفيروسات المنتشرة في الهواء.

نحن نطيل زمن بقائنا على هذه الأرض، لكننا، ولكي ننجح في تحقيق هذا المسعى نقلص حيواتنا إلى حدها الأدنى

 

الفارق الجلي بين تاريخ البشر في تعاملهم مع الطبيعة والكائنات الأخرى أن تاريخ الأولين مراقب ومدون. وأن هذا التاريخ يضج بأخبار انتصارات وهمية على الطبيعة في حين أن الكائنات التي تشاركنا الكوكب لا تحسن الادعاء ولا تمارس الدعاية لانتصاراتها.

هذا المسار لا ينفي أن البشر قتلوا الحيوانات التي نافستهم في مجالهم الحيوي. لكنهم أيضًا يشبهون في تصرفهم هذا كل الحيوانات الأخرى التي تحمي مجالاتها الحيوية بالأنياب والمخالب. ولا ينفي هذا المسار أيضًا أن البشر دمروا غابات لأسباب شتى، بعضها حيوي، لكنهم في المقابل هجنوا نباتات وأشجار تتكاثر بسرعة أكبر من مثيلاتها في الطبيعة العذراء.

في الخلاصة، يمكن تلخيص تاريخ الحياة البشرية على الأرض بوصفها صراع من أجل البقاء.

اليوم، يبدو هذا التلخيص بعيدًا بعض الشيء عن مداركنا. ذلك أن مداركنا تنطلق من معطيات صناعية، ويمكن القول بأنها ليست من نتاج الطبيعة المباشرة. حين نرتدي ثيابًا شتوية ثقيلة في ألاسكا فإننا نصارع من أجل البقاء. وحين نشغل مكيفات الهواء في قطر أو نيفادا فإننا نصارع من أجل البقاء. وليس في هذا الصراع ما يمكن أن نعتبره نجاحًا منقطع النظير.

لقد ذهبنا بعيدًا في صراعنا مع الطبيعة، إلى حد أننا أصبحنا اليوم كائنات أقل حياة. وحين تحل جائحة ما، كمثل جائحة كورونا، نكمم أفواهنا وأنوفنا. وحين ينصحنا الأطباء بالابتعاد عن مأكولات معينة، نضع أجسامنا في الثلاجات، في محاولة لحجب طبيعتها عنها. وحين نتمنع عن إنجاب الأطفال ونحاول ما أمكننا تجنب هذه الكأس، فإننا نعترف بلا أي التباس، أننا غير قادرين على إطعامهم كما يقدر الجاموس البري على إطعام صغاره وحمايتهم. وحين نقود سيارة فإننا نؤكد لأنفسنا أننا نسير داخل دروع معدنية تجنبًا لأي احتكاك مع الطبيعة غير مرغوب فيه.

والخلاصة من هذا كله. نحن نطيل زمن بقائنا على هذه الأرض، لكننا، ولكي ننجح في تحقيق هذا المسعى نقلص حيواتنا إلى حدها الأدنى. نحن لا نأكل ما نشتهي، ولا نتكاسل كما نحب، ولا نتناسل كما تدعونا غرائزنا. إننا ببساطة نضع قيودًا على كل مناحي حياتنا، ذلك أننا نريد العيش أطول، إنما في الثلاجات.