تولّدت خلال الشهرين الماضيين حيويّة نادرة في حواراتنا العامّة عربيًا، في لحظة تكاد تكون الأشدّ يأسًا وقلقًا من المستقبل بشأن شؤون عديدة، ليس أقلّها روح الربيع العربي، ولا آخرها قضيّة فلسطين، وما يتوسّطهما من مطالب الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية والتحوّل الديمقراطي.
منذ الحفل الافتتاحي لكأس العالم في 20 تشرين ثاني\نوفمبر، في ملعب "البيت"، تم الإعلان على لسان أمير قطر عن مونديال يرحّب بالجميع، "من بلاد العرب"، ليكون "فضاء مفتوحًا للتواصل الإنساني والحضاري".
لم يكن لدى الكثيرين صورةٌ ماثلةٌ عمّا يمكن أن يكون عليه الحلم في بناء أوطانٍ ذات إمكان حضاريّ وقدرة على التأثير في مجرى الأحداث العالميّة والمساهمة في إعادة صياغة ما يجدر بالبشريّة أن ترعاه وتسير عليه، من قيم إنسانية كونيّة حقيقيّة، غير تلك القارّة في العنصريّة والرغبة في استدامة الهيمنة والاستبداد.
ففي اللحظة التي بدا بها للبعض أننا بصدد شهود حدث عالميّ مركّب هو الأشدّ عولمة وتعبيرًا عن حالة "العالم الأوّل"، جاء مونديال قطر 2022، ليثبت أمورًا أخرى، أصرّ كثيرون على تغييبها وتشويهها، وادّعاء أنّها أحلامٌ هشّة، ومطامح تفوق حجم الدولة المستضيفة، وانتصارات غير جديرة إلا بالرجل الغربيّ الأبيض أو من استمرأ التلبّس الكامل بقناعه. فمنذ الحفل الافتتاحي لكأس العالم في 20 تشرين ثاني\نوفمبر، في ملعب "البيت"، تم الإعلان على لسان أمير قطر عن مونديال يرحّب بالجميع، "من بلاد العرب"، ليكون "فضاء مفتوحًا للتواصل الإنساني والحضاري".
وهو ما كان وتحقّق، بنسب متباينة بحسب زاوية نظر أي متابع موضوعي، اهتمّ بالنقاش الحضاري الواسع الذي انطلق إبّان انطلاقة المونديال، وشاركت فيه طبقة فريدة من الجماهير العربية والأجنبيّة، كما بدا جليًا على وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت على الأقل تسائل حالة الهيمنة المادّية والثقافيّة في العالم اليوم، وتفكّ عقدة النقص أمام الآخر، وتراجع نمطيّات إعلامية عقيمة وتخلخلها، وتتحرّر من مقاربات ثقافويّة عنصريّة منهكة لهويتنا العربية والإسلاميّة. ولعلّه من الآمن القول، أن الكثيرين، منذ انطلاقة المونديال، لم ينشغلوا بكرة القدم بقدر ما انشغلوا بالتصدّي للحملة الإعلامية التي لا يمكن وصفها بدون ابتذال بغير صفة "الحربيّة"، نظرًا لحجمها وكثافتها وتوحّد منطلقاتها ومصادرها. هذا الانشغال العفويّ العام بالدفاع عن الدولة المستضيفة والشخصيّة العربيّة التي تمثّلها، كان كفيلًا بمضاعفة معنى "الحلم"، وهي إحدى الكلمات المركزيّة في الحملة الإعلانيّة في الفترة التحضيرية للمونديال، وتعظيم قيمته الرمزيّة والحضاريّة، ونقله من نافذة الحلم إلى بوابّة الحقيقة والواقع، ليس خلال 30 يومًا من المنافسات الكرويّة وحسب، بل حتى وقت طويل بعد انتهائها.
لقد كانت قطر في قلب هذا المونديال، كما كان المونديال في قلب مدن قطر الصغيرة التي رحّبت بالعالم ووسعته، ووسعت تعريفًا جديدًا ممكنًا له، يحفّز على السعي من أجل إنهاء الخلط بين ما هو غربيّ معولم بالقوّة وأصولها الاستعمارية وبناها العنصريّة وبين ما هو إنسانيّ كونيّ جامع، ويذكّر من جديد بضرورة الحفاظ في العلاقات الكافّة على إحياء واحترام هذه القيم الأساسية التي من شأنها أن تجعل هذا العالم أكثر إنسانيّة وعدالة.
في مونديال قطر، كان جيل جديد من الشباب العرب، يتعرّف أوّل مرّة إلى غانم المفتاح، ويستمع من جديد إلى لهجة أبناء قطر وتونس والمغرب والسعودية، يفرح مع الأخيرة ضدّ أرجنتين ميسي، وينفر من فرنسا غريزمان حبًا بأشرف حكيمي. أطفال صغار أعدّوا قبل المونديال عدّتهم لتشجيع ميسي ورونالدو وإمبابي، انقلبوا بلحظة وعي فارقة لتشجيع استثنائي للمنتخبات العربيّة والأفريقية، والتعرّف لأوّل مرّة ربما على أعلام هذه الدول وأناشيدها الوطنيّة ومواقعها على الخريطة. أما فلسطين، كمقولة سياسية وثقافية، فكانت على القطب الأقصى من الحضور والذكر والاهتمام، لا ككوفيّة خفيفة على أكتاف المشجعين أو رايات كبيرة على المدرّجات وحسب، بل كوعدٍ ورهان بأن تظلّ القضيّة الجامعة للعرب والماثلة دومًا في وجدانهم جيلًا بعد جيل.
لقد استحقّت قطر تنظيم هذه التظاهرة الرياضيّة الأضخم والأكثر شعبيّة في العالم، ولم يعد هذا أمرًا استثنائيًا بالنظر إلى مستوى النجاح التنظيمي والتقنيّ والأمنيّ الذي أقرّ به الجميع، حتى من تصدّوا لحملة التشويه والتشكيك والمزاودة. ما كان استثنائيًا بحقّ في كأس العالم 2022، هو الاستثمار المسؤول والمتبصّر من أجل تمثيل حضاري لا يضاهى للعرب، مناقضٍ بحسب ما يرى الدكتور عزمي بشارة محقًا، لتلك الصورة التي تشكّلت عنّا منذ أحداث 11 سبتمبر. إنّها اللحظة التي أعادت الأمل إلى الواجهة، وأخرجت الجدل حول الفاعلية العربيّة من خانة الجوهر، بعد أن تحقّقت في حيّز الوجود في ألمع صورة.
لقد حقق هذا المونديال، إضافة إلى النجاح في امتحان التنظيم والضيافة، إنجازًا معرفيًا وحضاريًا، قلب كثيرًا من معاني النصر والخسارة
لقد حقق هذا المونديال، إضافة إلى النجاح في امتحان التنظيم والضيافة، إنجازًا معرفيًا وحضاريًا، قلب كثيرًا من معاني النصر والخسارة، حيث باتت للمرّة الأولى منذ زمن بعيد أبعد عن الأرقام والأهداف والعصبيّات، وأقرب ولو خطوة إلى ما هو أسمى وأكثر استدامة وأدوم أثرًا، وفي حالة من التدافع الإعلامي، الذي أدارته الدولة المنظّمة بإستراتيجيات راشدة، صبّت حصيلته الأخيرة في صالحها، وضمن مشهديّة مادّية ورمزيّة فاقت كلّ التوقّعات.