الكتّاب والمحللون يجهدون طوال الوقت في إطلاق النبوءات: أزمة اقتصادية ستضرب الولايات المتحدة، الليبرالية تعيش نزعها الأخير، روسيا ستنتصر في حربها، أوكرانيا ستنتصر في حربها، لبنان سيشهد مرحلة ازدهار جديدة. لكن العالم في ما يبدو لم يعد يسير على قياس النبوءات. العالم يعرف أن الأزمات الاقتصادية تأتي وتمضي. ويعقب الركود ازدهار يعقبه ركود. لكن العالم يمضي قدما في تشكيل لحظته التي لا تنتهي. ذلك أن كل ما يتعلق بالتقدم والتطور والازدهار وحتى عيش البشر أنفسهم، يقع اليوم في خانة ما لا غنى عنه، وما يمكن السيطرة على إنتاجه إلى حد بعيد. الأزمات الاقتصادية لم تعد تقع لأن سنوات عجافا مرت على قارة آسيا. إنتاج الغذاء والماء أصبح صناعيا بالكامل. اللحوم التي نستهلكها كل يوم ليست هي لحوم الصيد الذي كان يقوم به البشر، وطبعا ليست لحوم الحيوانات التي دجنها البشر. لقد باتت تنتج مواليدها وحليبها بكميات صناعية على نحو يخالف طبيعتها في الحمل والولادة. ثمة مصانع هائلة قادرة على تسريع الإنتاج على نحو لا تؤثر فيه أحوال الطبيعة. والأمر نفسه ينطبق بتمامه على الإنتاج الزراعي. والحال، لم تعد الأزمات الاقتصادية التي يتحدث عنها المحللون قادرة على إخراج دولة ما من سياقها إلى سياق آخر. وإذ يفت هذا الأمر في عضد المحللين والكتّاب إياهم، فإنهم يطورون نبوءاتهم ويصعّدونها نحو الكوارث العظمى.
لم تعد الأزمات الاقتصادية التي يتحدث عنها المحللون قادرة على إخراج دولة ما من سياقها إلى سياق آخر. وإذ يفت هذا الأمر في عضد المحللين والكتّاب إياهم، فإنهم يطورون نبوءاتهم ويصعّدونها نحو الكوارث العظمى
ما الحدث الذي قد يغير العالم وأحواله إذا؟ إنه حدث الحرب الشاملة. حرب لا تبقي ولا تذر. قد تقع بين الصين والولايات المتحدة مثلا، وقد تؤدي إلى فراغ العالم وموت جل ما فيه. حسنا فلنطلق النبوءات على هذا المستوى الكارثي. كل يوم يطالعنا أحدهم، وهو يشهر سيرته الذاتية الطافحة بالمناصب التي شغلها، بنبوءة تقول إن الحرب العالمية الثالثة بدأت ولن تنتهي إلا بخراب الهيكل على رؤوس الجميع. جيد جدا. قد يحصل هذا الأمر حقا، إنما ما الذي يجعل هذا المحلل أو الكاتب مسرورا بنبوءته؟ هل يعتقد أنه سينجو؟ هل ستمر الحرب قريبا من بابه من دون أن تمسه بأي ضرر؟ ثم ما الذي يعنيه أن يتخيل أحدهم أن الوسيلة الأفضل لتحجيم الهيمنة الأمريكية على العالم هي بإشعال حرب معها؟ ولماذا يصر هؤلاء على اعتبار الحروب قادرة على التغيير نحو الأفضل؟
واقع الأمر الذي لم يعد قابلا لأن يحمل أي التباس، أن معظم محللينا وكتّابنا ما زالوا يعيشون في فقاعتهم التي لا تريد أن ترى العالم على حقيقته. هذا التأكيد لا ينفي أن ثمة قادة دول يفكرون على النحو نفسه: نجهز جيشا قادرا على المشاكسة والقرصنة، ثم نطلق يده في البحار وعلى اليابسة. في النتيجة، سيحدث ضررا ما في السيستم الذي يدير العالم. وهذا من شأنه لو تكرر على نحو متواتر أن يعطل هذا السيستم تعطيلا تاما، ويهزم أربابه من دول ومؤسسات إلى غير رجعة. هذه سياسات تفترض بمطلقيها ومتبنيها أنهم يعرفون أن أوضاع بلادهم التي يقودونها تقع خارج العالم تماما. إذ لو كانت حقا داخل هذا العالم الذي يعترضون عليه، لما اعتبروا أن ضرب السيستم الذي يدير أوضاع معظم أنحاء الكوكب يعود عليهم بالفائدة، أي فائدة. حين تكون منخرطا في هذا العالم وخاضعا لشروطه سيصيبك الضرر جراء أي خلل يصيب السيستم. لكنك حين تكون حيا مع وقف التنفيذ، وتتسلط على مجتمعك وتحشره في ثلاجة الظروف الطارئة، فإن أي خراب يصيب هذا العالم لن يضيرك حقا. ذلك أنك أصلا ترفع راياتك فوق الخراب.
مع ذلك يحدث أن يحتفل البعض، سياسيون ومحللون وصحافيون، بحوادث القرصنة التي لا يجيد بعض الأنظمة في منطقتنا غيرها. وهم في احتفالهم هذا إنما يؤكدون لنا أنهم يعيشون خارج هذا العالم حقا.