26-ديسمبر-2017

كوالالمبور ماليزيا

لم تشهد البشرية في تاريخها الطويل انفجارًا سكانيًا كالذي تشهده خلال القرنين الأخيرين، وبسبب سهولة الحياة بعد اختراع الآلات والتطور الذي شهده العالم، ظهرت مدن كبرى في أنحاء العالم بحيث يمكنها استيعاب كم هائل من البشر، ويمكنها فوق ذلك توفير شروط الحياة ومتطلباتها.

من المؤكد أن المدينة تعكس نمط تفكير الانسان وطريقة عيشه

لو أردنا الرجوع بالزمن إلى الوراء ومعرفة حياة البشر سابقًا، فلا شيء سيفيدنا أكثر مما تفعله الآثار التي خلفتها تلك الحضارات من مدن ومباني قاومت الزمن لآلاف السنين. ومن المؤكد أن المدينة تعكس نمط تفكير الانسان وطريقة عيشه. فالأهرامات مثلًا بنيت لغرض ديني، عبّر المصريون القدماء عن أنفسهم من خلالها بطريقة رمزية مما عكس ثقافة ذلك العصر. والبناية اليونانية تحمل من الدقة والوضوح ما يوحي بتعلق ذلك الشعب بالرياضيات والهندسة والمنطق. ولو تأملنا البنايات الرومانية فهي رمز للقوة والجبروت بكل ما كانت تعنيه روما للعالم القديم.

اقرأ/ي أيضًا: شفشاون.. المدينة الزرقاء الساحرة

تختلف المدن من ثقافة إلى أخرى، حتى وإن كانت تتسم بالعصرنة، وقد نجد عدة اختلافات في المدينة نفسها ما يثري نسيجها المعماري ويصبغه بلون خاص يميزها عن باقي المدن.

أكيد أن البناية وحدها لا تشكّل مدينة، وأن الفرد وحده لا يشكل مجتمعًا، لكن تخيلوا معي لو أن هناك مكانًا مبسوطًا ذا هواء طلق يطل على منظر بهيج كالبحر، أو يحاكي ضفة نهر، ما فيأتي أحدهم ويشيد بناية على تلك الأرضية. بالتأكيد سيزداد المنظر جمالًا لو عرف هذا الشخص كيف يمزج بين سحر الطبيعة ورونق البناء. يمكن لهذا المنظر أن يكون موضوعًا للوحة رسام. وبعد أيام يمر من هناك شخص آخر فيروق له المكان، ويعقد على الاستقرار فيه، وبالتالي سيشيد منزلًا ينافس في بنائه المنزل الأول.

هذا بالتأكيد سيخلق الرغبة في الجمال والحياة مما يجلب مزيدًا من السكان، ولن يطول الأمر حتى نحصل على شارعين أو ثلاثة. ونظرًا لبعد المكان عن المرافق العمومية وازدياد الكثافة السكانية فيه، فالحاجة للبلديات والبنوك والأسواق أصبحت من الضروريات، لكن هذا غير كاف. فهؤلاء السكان أناس مثقفون متطلباتهم الفكرية لا تسمح لهم بهذا القدر من الاكتفاء، إذًا ستولد مبان من نوع آخر متمثلة في دور السينما والمسارح وقاعات الرياضة، والمكتبات العمومية... إلخ. نحن الآن بصدد إنشاء مدينة صحية ومتوازنة تطور نفسها بنفسها عن طريق مرفقاتها الفكرية اللامادية والمادية. ومن المتفق عليه أن التنظيم الاجتماعي هو مجموعة من الاتفاقيات والحالات والقيم الشاملة التي تتفوق على المصالح الفردية لمجموعة اجتماعية، فالمدينة أيضًا مجموعة من المباني المنظمة والمترابطة التي تجمع بين مختلف الأفراد والثقافات، عن طريق مرفقاتها العمومية والثقافية والسكنية، وهي المدينة التي يستحق لها أن تكبر أكثر لأنها صحية، ولا تشكل خطرًا كبيرًا على الإنسان، ولا على الطبيعة عمومًا.

المظهر الخارجي والداخلي للمدينة منوط بالإنسان نفسه، فهو الذي يشغل بناياتها وأحيائها

إن المظهر الخارجي والداخلي للمدينة منوط بالإنسان نفسه، فهو الذي يشغل بناياتها وأحيائها. وبشكل مختصر المدينة هي المظهر العام لمجتمع معين.

اقرأ/ي أيضًا: نصيبين.. المدينة التوأم

الآن لتسمحوا لي مرة أخرى في التخيل، ولنفترض أن إنسانًا آخر ذا ثقافة متدنية لا يعرف من البناء غير المأوى، ولا من النهر ولا البحر غير الشرب والصيد، فيشيد هذا بناية خالية من أي لمسات فنية، ولا تحتوي على بنية تحتية لتصريف المياه، ستبدأ قاذوراته بالانتشار حوله، وسيتشبع الهواء بروائح كريهة، تخيلوا فقط أن هناك مزيدًا من هؤلاء الأشخاص الذين سيتسببون في انتشار الفوضى التي تكون عادة موطنًا لكل الأمراض من آفات اجتماعية وتدهور للصحة العامة للأفراد، سيتسمم الهواء والماء وتكثر البنايات العشوائية وتزداد ازدحامًا، وتضيق المساحات العمومية لعدم وعي السكان وإدراكهم بما سيتسبب ذلك من مشاكل صحية واجتماعية في المستقبل. فتمهد بذلك لظهور العصابات والجرائم والفساد، وهذا الأمر لا مفر منه في مثل هذه المدن، لأن العصابة والفساد هما رد على خلل النظام الاجتماعي، فهما يعرضان بديلًا عن الشيء الذي لم يستطع المجتمع إعطاءه، وهي تسدّ نقصًا وتقدم مخرجًا (مدرسة شيكاغو).

البناية تفضح سلوك الأفراد ونمط تفكيرهم. ففي المدن السيئة ينعدم الأمن الاقتصادي والمعنوي، فالأول يظهر في حرص المواطن على تكريس أغلب مساحة منزله لغرض تجاري فيعكر صفاءه وهدوءه بذلك، ناسيًا أن المنزل في المقام الأول مكان حميمي ينعم فيه الفرد بالهدوء والسكينة. أما الثاني فيظهر جليًا في تفشي ظاهرة الأسوار التي تحيط بالمرفقات العمومية والمنازل عمومًا، رغم توفر التكنولوجيا الحديثة المتمثلة في كاميرات المراقبة. هذا الحجب الممارس على البنايات يمكن تفسيره كذلك في عقلية البيروقراطية المتفشية في الإدارة وانعدام الحرية.

أحيانًا يتحجج البعض منا قائلًا إن العقيدة تفرض نمطًا معينًا من الحياة يجعلنا نكيف بناياتنا على حسبها لنسايرها، فنصبح مضطرين بذلك إلى ممارسة هذا النوع من التعتيم على البنايات وخشية ظهورها إلى العلن، مما يزيد من بشاعتها، ولكن هذا خطأ، فالمشربية من بين التقنيات الرائعة التي تفند هذه الفكرة تمامًا، وقد استعملت لغرض التورية لكنها لم تخل من لمسة فنية رائعة. هناك حلول أخرى يمكن ابتكارها مثل العازل النباتي الذي يستعمل لغرض التزيين والحماية في آن واحد.

العصابة والفساد رد على خلل النظام الاجتماعي، فهما يعرضان بديلًا عن الشيء الذي لم يستطع المجتمع إعطاءه

رأينا عبر المقال أن هذا النمط الثاني من المدن هو نتيجة لتفكير دوغماتي مورس منذ عقود وأجيال، ولا يزال يفرض نفسه حتى تتداعى المدينة وتعج بالغيتو والبناءات الشعبية والقصديرية، فتصبح المدينة بحد ذاتها خطرًا على سكانها.

اقرأ/ي أيضًا: "عشوائيات بيروت"... وجه المدينة الخفي

من حقنا أن نحلم بعالم جميل تحيط به البهجة من كل مكان، وننعم في وسطه بالراحة والحرية، لكن هذا لن يكون ممكنًا حتى نوازن بين احتياجاتنا المادية واللامادية، فالمدينة كائن ضخم حي يلزمنا الاعتناء به، والمباني هي خلايا حية نابضة بالحياة إن كانت توازن بين متطلبات المواطن طبعًا، سنظل نحلم بمدن صحية حتى نتعلم احترام الإنسان، فإذا تم ذلك فسيصبح الحلم حقيقة آنذاك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفوتوغرافي نذير حلواني.. حين يكون هو المدينة

قسنطينة.. مدينة بألف وجه