20-ديسمبر-2023
جانب من الدمار الذي خلّفه القصف الإسرائيلي على مدينة رفح

لم يتوقف الاحتلال عن قصف رفح رغم ادعائه بأنها منطقة آمنة (Getty)

لا يصدِّق عمر الدرّة (35 عامًا)، من سكان حي الشجاعية شرق مدينة غزة، والذي اضطُر للنزوح قسرًا إلى الجنوب مع بداية المعركة البرية في شمال القطاع؛ أنه سيُضطر لعيش مأساة النزوح مرة أخرى بعدما هاجمت قوات الاحتلال الإسرائيلي خان يونس، التي لجأ إليها، وطالبت سكانها بالتوجه إلى رفح الحدودية.

أقام عمر في حي الشجاعية طيلة حياته، وكان شاهدًا على حروب الاحتلال عليها ومجازره بحق سكانها، إلا أن شدة عدوانه على القطاع في هذه الحرب كان مختلفًا عن كل مرّة: "أول مرّة نشوف هذا الدمار ونسمع هذه الأصوات والقنابل"، ما دفعه إلى مغادرة بيته على وقع الأحزمة النارية إلى الجنوب لحفظ حياة أولاده: "والله لو علي بفضَّل الشهادة في بيتي لكن الأولاد ما إلهم ذنب"، يقول عمر.

أجبر الاحتلال سكان شمال قطاع غزة على النزوح نحو الجنوب، وأقام على طول طريق النزوح نقاط تفتيش يُجبر النازحون على المرور عبرها

وكان الاحتلال قد أعلن، بعد انتهاء الهدنة الإنسانية في الأول من كانون الأول/ديسمبر الجاري، عن المرحلة الثانية من عدوانه على قطاع غزّة التي تتمثّل بتوسيع عملياته البرية في الجنوب والتقدُّم نحو مدينة خان يونس. وقد ألقى منشورات تحذيرية كتب فيها: "إلى سكان خان يونس، معن، المحطة، الكتيبة، وبني سهيلا (..) عليكم الإخلاء فورًا والتوجُّه إلى الجنوب"، مدّعيًا أن أحياء أقصى الجنوب بمدينة رفح أكثر أمانًا ووفرةً لناحية المساعدات الإنسانية.

نزوح جديد؟

شهدت مناطق الجنوب "الآمنة"، بحسب ادعاء الاحتلال، قصفًا مكثفًا فور انتهاء الهدنة أسفر عن وقوع مئات الشهداء والجرحى، وتدمير مربعات سكنية بأكملها. وقد صاحب ذلك اشتباكات عنيفة من مسافة صفر بين المقاومة الفلسطينيةوقوات الاحتلال المتوغلة.

كانت الحدود الشمالية لمدينة خان يونس من أبرز مناطق الجنوب التي تركّز عليها القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي، وهي ذات المنطقة التي نزح إليها عمر: "كان القصف عبارة عن أحزمة نارية متتالية غطّت الحدود الشمالية كاملة"، في ليلة هي "الأكثر رعبًا" على نساء وأطفال المنطقة بحسب وصفه.

يومها، أسرعت عائلة عمر وأقاربه والجيران بجمع ما تيسّر من ثياب ومواد تموينيّة، وقروا التوجّه أخيرًا نحو مخيم العودة شرق خان يونس. يقول عمر: "وصلنا بعد الساعة 12 بالليل، نمنا على الرمل، ما في شيء فوقنا ولا تحتنا"، خاصةً مع عدم قدرة النازحين حتى على توفير خيمة تؤويهم، فحتى الخيام لا توزعها الهيئات الأممية على النازحين.

في اليوم التالي، استطاع عمر بمساعدة صديقه توفير مجموعة من "العواميد" الخشبية التي نصبها على شكل مربع وغطّاها بأقمشة خفيفة لتصير له ولعائلته بيتًا مؤقتًا: "بدك توفر لنفسك ولعائلتك مسكن أو خيمة أو أي حاجة. للأسف كثير من النازحين عجزوا عن توفير هذا المسكن، وظلّوا في العراء على أمل حد يساعدهم".

بعد 10 أيام من إقامة عمر وعائلته في مخيم العودة، استهدف الاحتلال محيط المخيم: "ضربونا بالقنابل الفسفورية والدخانيّة"، وامتدّت الاشتباكات بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال إلى مناطق واسعة في مدينة خان يونس، ما اضطّر عمر وعائلته إلى حمل ما تبقّى من أشيائهم استعدادًا لنزوح آخر: "قصفوا بيتنا في البداية، وطلبوا منا النزوح من الشمال إلى الجنوب. والآن بالجنوب بعيدوا نفس الحكاية، بقصفونا وبطلبوا منا التوجه إلى رفح (أقصى منطقة في جنوب القطاع). وبعد رفح لوين؟ إلى مصر؟" يقول عمر، الذي يستقر حتَّى اللحظة في مدرسة "الجنينة" التابعة لوكالة "الأونروا" في مدينة رفح.

تسجِّل مدينة رفح، معقل النزوح الأخير التي لا تتجاوز 17% من مساحة القطاع، عشرات الآلاف من حالات النزوح يوميًا، حتى وصل العدد إلى أكثر من 470 ألف نازح يُضافون إلى 280 ألف هو عدد سكان المدينة وفق أحدث إحصائيات وكالة "الأونروا".

كان إبراهيم النجّار (42 عامًا) أيضًا أحد أولئك النازحين، حيث اضَّطر إلى ترك منزله في بيت لاهيا شمال القطاع بعد تلقيه مكالمة هاتفية من ضباط استخبارات الاحتلال لإخلاء المنزل والنزوح إلى خارج المحافظة الشمالية: "حكولنا المنطقة عسكرية، رفضنا نطلع من البيت، قلنا الحرب أسبوع أو 10 أيام مثل كل مرة وتخلص"، إلا أن شدَّة القصف الذي طال عدة منازل مجاورة، والأحزمة النارية اليومية، وتتابع المناشير المحذّرة دفعتهم للخروج.

جانب من الدمار الذي خلّفه القصف الإسرائيلي على رفح

مشيًا على الأقدام، توجّه إبراهيم برفقه زوجته وخمسة من أولاده إلى منزل أخيه في مدينة غزّة: "على الفاضي، القصف والضرب والفسفور هو هو"، حتّى استهدف الاحتلال أحد المنازل القريبة منهم، ما دفع بالعائلتين إلى ترك المنزل والنزوح إلى مدرسة "الدرج" التابعة لوكالة "الأونروا" شرق مدينة غزّة. وبعد 10 أيام من الإقامة فيها، استهدف الاحتلال محيط المدرسة مخلّفًا عددًا من الشهداء والجرحى: "لم يبقَ أمامنا إلا خان يونس، من أول الحرب بحكولنا روحوا على الجنوب، ورحنا".

انتظر إبراهيم من الساعة السابعة صباحًا إلى الثالثة ظهرًا حتى توفرت سيارة لتنقلهم إلى خان يونس، وهناك مكث وعائلته في أحد المنازل لمدة اسبوعين، كان من ضمنهما الهدنة الإنسانية المؤقتة: "بأيام الهدنة لقينا ورق بنزل من السما"، كانت مناشير الاحتلال التحذيرية حينها تطلب من أهالي خان يونس إخلاء منازلهم والتوجّه لرفح: "تعبنا، بطَّل فينا حيل نروح لمكان ثاني"، إلا أن شدّة القصف الذي شهدته المدينة بعد الهدنة أجبرت إبراهيم اللجوء إلى أحد منازل المواطنين في رفح.

يُجبر الاحتلال النازحين على قطع مسافة تزيد على 12 كيلومترًا من مدن محافظة الشمال ومدينة غزة حتى مخيم النصيرات وسط القطاع، مرورًا بالمناطق التي تسيطر عليها دبابات وآليات عسكرية إسرائيلية، في طريقهم إلى مدن جنوبيّ القطاع ومخيماته. ويقطع النازحون طريقهم مشيًا على الأقدام أو على الدراجات النارية أو السيارات أو عربات تجرها الأحصنة والحمير، أو شاحنات كبيرة مع قاطرة تنقل أطفالًا ونساءً نازحين ومحملة بما تيسر من أمتعة.

ووفقًا لما رصده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" في تحديثه المنشور بتاريخ 14 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، فإن الاحتلال الإسرائيلي ضغط على سكان شمالي غزة للتوجه نحو الجنوب عبر الممر المخصص على طول طريق المرور الرئيسي، وهو شارع صلاح الدين. وقد أقام على طوله نقاط تفتيش يُجبر النازحون فيها على تسليم هوياتهم واجتياز تقنية التعرّف على الوجه.

ويعتمد الاحتلال في هذه العملية على "منظومة الذئب الأزرق" القائمة على كاميرات متطورة مخصصة للتعرف على الوجوه، وهي مزودة بتقنيات محوسبة تعتبر بمثابة حاسوب متنقل، يتم دعمها بقاعدة بيانات تضم آلاف الصور لأشخاص وبياناتهم مأخوذة من السجل المدني الفلسطيني.

وبعد أن تلتقط كاميرات عالية الدقة صورة للشخص المستهدف، تُعالج ويتم البحث عنها لمقارنتها بقاعدة البيانات في ذاكرة الحاسوب، وخلال ثوان تُحدد هوية الشخص، ومدى خطورته من المنظور الإسرائيلي، ونوعية الإجراء الذي سيُتخذ بحقه، سواء تركه، أو اعتقاله، أو قتله.

وقد وثّقت الصور التي جرى تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي تنفيذ الاحتلال إعدامات ميدانية بدمٍ بارد في تلك الطرق، منها إعدام السبعيني "بشير حجي" من سكان حيّ الزيتون في مدينة غزة، الذي استخدم جنود الاحتلال صورته للترويج لـ"أكذوبة الممر الآمن" أثناء نزوحه نحو الجنوب في 10 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، إذ التقط أحد الجنود صورة برفقته يتظاهر فيها بمساعدته على قطع الطريق، ثم قاموا بعد ذلك مباشرةً بقتله برصاصة في رأسه، وأخرى في ظهره.

يتطابق ذلك مع ما ذكره "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" في تقريره بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت بعنوان "إسرائيل تعدم عشرات الفلسطينيين في ممرات النزوح من غزة وشمالها"، الذي وثق إعدام قوات الاحتلال للفلسطينيين خلال نزوحهم من مدينة غزة وشمالها باتجاه الجنوب، الأمر الذي أسفر عن استشهاد العشرات، حيث بلغت حصيلة ضحايا إحدى هذه الاستهدافات 70 شهيدًا وأكثر من 200 مصاب.

ورغم ادّعاء الاحتلال أن مدينة رفح آمنة وأكثر وفرة لناحية المساعدات، إلا أن قصف المدينة لم يتوقف منذ بداية الحرب من شرق رفح إلى غربها، كما أنها تسجّل يوميًا مجارز بحق المدنيين جراء قصف منازلهم أو مراكز الإيواء، مع تحليق مستمر لطائرات الاستطلاع وطائرات الـ"كواد كابتر" على ارتفاعات منخفضة. وتفتقر المدينة للمساعدات الإنسانية الإغاثية ككل مناطق القطاع، إذ إن عدد الشاحنات التي دخلت خلال الهدنة لم تكن كافية لتغطية أدنى احتياجات المدينة مع ارتفاع عدد سكَّانها بشكلٍ كبير.

المنطقة الآمنة: كارثة إنسانيّة صحيّة وبيئيّة

حذَّر رئيس بلدية رفح، أحمد الصوفي، في تصريحاتٍ صحفيّة متكررة من "كارثة إنسانية" في مدينة رفح في حال لم يتم وقف عملية النزوح نحوها، أو في إن فكّر الاحتلال بتوسيع عمليته البرية باتجاه المدينة التي تؤوي عددًا كبيرًا من النازحين، مؤكدًا أن مرافق ومقدرات المدينة بالكاد تكفي لخدمة سكانها: "فكيف في ظل تضاعف الأعداد عدة مرات، باستمرار النزوح إليها؟".

لجأ النازحون في البداية إلى مدارس "الأونروا" والمستشفيات الموجودة في المدينة، ثم فُتحت أبواب المدارس الحكومية، إلى جانب رياض الأطفال ومقار الأندية الرياضية والاجتماعية، وافترش منهم الشوارع الرئيسية والطرقات، وأعلنت مديرية أوقاف رفح فتح مساجد المدينة لاستقبال النازحين، "وين ما بتروح بتلاقي زحمة، رفح مليانة خالص، ما فيها وسع"، تقول أسماء أبو هاشم(26 عامًا)، من سكّان رفح.

أدى اكتظاظ السكّان في المدينة إلى شح المواد الغذائية والماء والدواء، خاصةً في ظل عرقلة الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية الإغاثية المتكدّسة على معبر رفح إلى القطاع: "المحلات فاضية، بنلف رفح كاملة عشان بكيت ملح"، تقول أسماء. وحتى المساعدات التي دخلت مسبقًا إلى القطاع كانت محدودة: "ما لمسنا أثرها وما شفناها في الحقيقة"، ولم تكن كافية، بحسبها، لتلبية أدنى حاجات الناس في القطاع.

وارتفعت كذلك أسعار البضائع على مختلف أنواعها بصورة كبيرة، رغم انعدام القدرة الشرائية لأهل القطاع وتدمير مصادر رزقهم وانقطاع رواتبهم: "كيس طحين كان بـ50 شيكل صار 220 (59 دولار أمريكي) وكرتونة البيض كانت بـ15 شيكل صارت الآن بـ70 شيكل (19 دولار أمريكي)"، توضح أسماء.

وفي المقابل، غابت الأدوار الفاعلة للمنظمات الأممية كـ"منظمة الصليب الأحمر" ووكالة "الأونروا" التي تشرف على تلقي المساعدات من الجانب المصري وتوزيعها على أهل القطاع، خاصةً النازحين منهم داخل مدارسها: "بنعتمد على ما تُوزعه الأونروا علينا، كل يومين أو ثلاثة، بعطونا علبة أو علبتين تونة أو فول". أمّا الخضار والفواكه، فشبه معدومة: "الشغلات البسيطة مثل البصل والبندورة والخيار مش موجودة من بداية الحرب" يقول عمر.

وتصطف جموع النّاس في طوابير طويلة للحصول على شيء يسدّ جوعهم: "بدك تستنى الدور على كل حاجة، ممكن يكون قدامك 1000 شخص أو أكثر"، يقول عمر الذي سجّل في أحد مراكز اللجوء في رفح: "إذا قدرت تأمن طحين بتلاقي كل الناس بتسألك من وين جبته ووين سجلت وبكم شريت"، وقد يمر على الكثير من الناس في مخيمات رفح يومين أو أكثر دون القدرة على الحصول على أي من أصناف الطعام.

ويبيّن عمر أن مهمة الحصول على المياه شاقة وتتطلب السير مسافة طويلة للتعبئة، وقد تتكرر أكثر من مرة يوميًا لجمع أكبر كمية ممكنة للاستخدامات المختلفة للعائلة: "فش مي كويسة (نظيفة) في البلد، الناس بتشرب مية ملوثة ومية مالحة ومية مختلطة بالصرف الصحي". مؤكدًا أن رحلة البحث عن الطعام والمياه أصبحت "مهمة شبه مستحيلة" بعدما قطع الاحتلال كافة إمدادات الغذاء والماء والكهرباء والوقود عن القطاع مع بداية الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

وسجل" المرصد الأورومتوسطي" حالات وفاة لأطفال جوعًا داخل مدارس تابعة لوكالة "الأونروا" في مناطق جنوب قطاع غزة بعد معاناتهم من مضاعفات صحية نتيجة سوء التغذية، من هؤلاء الطفلة جنى ديب قديح (14 عامًا) المريضة بالشلل الدماغي، نتيجة الجوع الشديد. كما أنها لم تجد قبرًا يؤوي جسدها الضئيل، واضطرت أسرتها إلى دفنها في ساحة المدرسة.

ونفذت تطعيمات الأطفال بالكامل في قطاع غزة بحسب ما أعلنته وزارة الصحة الفلسطينية بغزّة، ما يعني أن أطفال القطاع سيواجهون تداعيات صحية خطيرة خلال الأيام المقبلة، خاصةً بين النازحين في مراكز الإيواء. ناهيك عن أنهم معرضون للإصابة بالأمراض الخطيرة والمعدية مثل شلل الأطفال والحصبة والنزلة الترفية التي تعد سببًا شائعًا للوفاة بين الأطفال الصغار. وطالبت الوزارة المؤسسات الأممية بالتدخل الفوري لتوفير التطعيمات وضمان وصولها إلى القطاع.

أطفال يحاولون الحصول على حصة من الطعام في رفح

ووثّقت الوزارة 327 ألف حالة مصابة بالأمراض المعدية، وهذا الرقم يشمل فقط المرضى في مراكز الإيواء، وممن استطاعوا الوصول إلى المراكز الصحية، أي أن العدد الحقيقي لمن طالتهم الأمراض المعدية أكثر من ذلك بكثير وفق التوقعات، بحسب ما جاء في المؤتمر الصحفي للمتحدث باسم وزارة الصحة أشرف القدرة.

وقد يكون الاكتظاظ الشديد في مراكز الإيواء سببًا لانتشار الأوبئة في قطاع غزة نتيجة تعطّل أنظمة الصرف الصحي، والجثث المتحللة تحت الأنقاض، وانعدام أبسط شروط النظافة، واستخدام المراحيض المشتركة، وتراكم النفايات. كما تنتشر بين الكبار والأطفال حالات إسهال شديد إلى جانب الإصابة بالإنفلونزا نتيجة الطقس البارد والأمطار الغزيرة وهشاشة الخيم وقلّة الأغطية.

وتتضاعف مأساة هؤلاء المرضى نتيجة عدم قدرتهم على تأمين أبسط ما يحتاجونه للتعافي، فرفوف جلّ الصيدليات تخلو من كلّ شيء حتّى المسكنات، والمشافي إما مقصوفة أو تعج بالجرحى، والمراكز الصحية القليلة المتوفرة موجودة في أماكن محددة لا يستطيع أن يصلها الجميع.

لذلك يلجأ الأهالي لحلول بديلة، فيصنعون محاليلهم الطبية إن وجدوا قليلًا من الماء النظيف وقليلًا من الملح والسكر. ولأنها أشياء باتت شديدة الندرة، كثيرًا ما يُترك المرضى دون هذا العلاج على بساطته، بحسب أسماء، من مدينة رفح.

وأثبتت الأوضاع الكارثية التي يعيشها سكان القطاع يوميًا، واستمرار الحرب، وإغلاق معبر رفح أمام المساعدات الإنسانية الإغاثية، أن مخرجات القمّة العربية الإسلامية التي أُقيمت بالرياض في 11 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، غلب عليها الصياغات الكلاميّة والخطابيّة، مثل المطالبات والمناشدات والتأكيدات، في غياب شبه كامل لأي خطوات عملية يفترض أن تضطلع بها القمة التي جمعت قيادات 57 دولة عربية وإسلامية.

وقد ركّزت كلمات معظم القادة المتحدثين حينها على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وإدخال المساعدات لسكان قطاع غزة، ورفض فكرة التهجير نحو جنوب القطاع أو مصر – كما كانت تدعو حكومة الاحتلال – والتّأكيد على حقوق الشعب الفلسطينيّ، ومنها إقامة دولته المستقلّة.

يحاول الاحتلال تنفيذ مخططاته في قطاع غزة، بما في ذلك التهجير، من خلال القصف العشوائي والتجويع عبر منع إدخال المساعدات

وكان القرار العملي الوحيد – المتمثّل في كسر الحصار وإدخال المساعدات – فضفاضًا لم تُشرح آليّتُه ولم تُطرح وسائل تطبيقه ولا كيف سيواجه التعنّت "الإسرائيلي"، فكان أقرب للرغبة والدعوة منه لخُطة عمليّة.

وكانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قد طلبت من الاحتلال محاولة تجنب إيذاء المدنيين، وعدم السماح بتهجيرهم، وطلبت تحديدًا واضحًا لأماكن عملياته العسكرية. لكن يبدو أن كل ذلك لم يكن ضمن خطط الاحتلال الذي لا زال حتّى لحظة كتابة التقرير يرتكب المجازر بحق المدنيين في مختلف مناطق القطاع، وما زال يطرد السكان من منطقة إلى منطقة، نحو أقرب نقطة إلى مصر.

مخطط التهجير قديم متجدد

منذ بداية الحرب، أدلى عدد من المسؤولين والصحفيين الإسرائيليين بالعديد من التصريحات المتمحورة حول التهجير، ومنها: "توطين الفلسطينيين في سيناء مقابل حذف ديون مصر الخارجية.. فكِّروا فيها"، "معبر رفح لا يزال مفتوحًا.. وأنصح أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك"، "أطالب بضرورة مغادرة سكان القطاع"؛ ما سبب حالة من الجدل عربيًا وعالميًا لأنها فجّرت قضية تعود للخمسينيات، وهي تهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

تعود جذور خطط تهجير الفلسطينيين من غزة إلى الفترة التي تلت نكبة 1948. في ذلك الوقت، رأى القادة الإسرائيليون أن وجود الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية يشكل تهديدًا لطابع الدولة اليهودية. على سبيل المثال، قال ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للاحتلال، إن: "العرب يجب ألَّا يظلوا هنا، وسأبذل قصارى جهدي لجعل العرب في دولة عربية".

وفي عام 2020، كادت خطة صفقة القرن على وشك التنفيذ بعد التوافق الذي جرى التوصل إليه بين ترامب وإسرائيل وعدة دول عربية بشأن تفاصيل كثيرة. ومع ذلك، بعد خسارة ترامب في انتخابات الرئاسة لفترة ثانية، فشل الأمريكان في تنفيذ الصفقة. وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية تدعو الآن إلى مبادرات مشابهة، فإن ذلك لا يزال يعكس روح صفقة القرن، حتى وإن لم تحمل نفس الاسم.

ولم يخف الاحتلال، منذ بدء العدوان، رغبته في إفراغ قطاع غزّة من سكّانه، وكان التهجير إلى سيناء واحدًا من الخيارات التي لا تزال دولة الاحتلال تعتبرها ممكنة التطبيق، معوّلة على ضغط غربي على القاهرة التي تتمسّك حتى الآن برفض هذا المخطط. كما أن الخريطة التي نشرها الاحتلال تخدم هدف التهجير إلى مصر، لا سيما أن نسختها الأولى، والتي تم تعديلها على موقع الجيش، كانت تتضمّن إشارة إلى المنطقة العازلة بين قطاع غزّة وسيناء، والتي اعتبرت ضمنًا أنها الوجهة التي يريد الاحتلال دفع أهل غزّة إليها.

ويحاول الاحتلال تنفيذ مخططاته عبر سياسة القصف العشوائي لكل مناطق القطاع إلى جانب سياسة التجويع ومنع دخول المساعدات. وقالت منظمة "أوكسفام" إن "التجويع" يُستخدم "كسلاح حرب" ضد المدنيين في غزة، من خلال منع دخول الغذاء والماء والوقود وغيرها من الضروريات بكميات كافية.

ولكن الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة عبّرا عن رفضهما القاطع لكل هذه المحاولات عبر الصمود في الأرض رغم صعوبة الحياة فيها والمقاومة الفردية اليومية والمسلحة. وقد سارعت قوى المقاومة منذ بداية العدوان الحالي على التأكيد بأن: "كل محاولات التهجير التي ستبوء بالفشل ونحذر من أي تساوق عربي وغربي مع مخططات تصفية القضية بأي شكل".

تنظر أسماء إلى مدينة رفح التي تغيّرت ملامحها منذ اليوم الأول للحرب: "صار شكلها رمادي، ما في لون، الدمار بكل مكان"، مؤكدةً أن أحياءً ومناطق ومساحات واسعة من القطاع ما عادت موجودة اليوم نتيجة القصف العنيف والعشوائي منذ السابع من أكتوبر. رغم ذلك، لم تجد في قلبها إلا زيادة في التعلُّق والحبُّ تجاه هذه المدينة: "تعودنا على غزَّة، بتمنى العالم يفكر في حل كيف يوقفوا هالمهزلة، مش يفكروا كيف يهجرونا ويعيشونا بأمان".