15-يوليو-2021

لوحة جدارية مستوحاة من الفيلم الفرنسي الصامت "أوراق اللعب" في مدينة مرسيليا (AFP)

من الناحية العلمية لا يُخفى على أحد بأن حاسة السمع هي الأولى التي نتنعم بها عند المجيء إلى هذا الكون، كما أنها الوحيدة التي تبقى متيقظة وباقي الحواس نيام، حيث تعد حاسة السمع الحاسة الأولى التي تبدأ بالعملِ عند الطفل بعد ولادته مباشرةً، كما أنّها مثل القلب فهي الحاسّة الوحيدة التي تبقى مستمرة في العمل ولا تتوقف أثناء النوم، بينما تكون الحواس الأخرى غافية، خاملة، ساكنة؛ وحيال أهمية هذه الحاسة من بين رفيقاتها ربما يذكر بعضنا جيدًا قول الفيلسوف الاغريقي سقراط "خلق الله لنا أذنين ولسانًا واحدًا لنسمع أكثر مما نقول"، إلاَّ أن كل تلك الأهمية لا تمنعنا من معاينة بعض المفارقات، واستهجان بعض الممارسات، وملاحظة الاستخدامات الغريبة لحاسة السمع لدى أترابنا.

من إشكاليات الإصغاء أننا لا نستطيع التأكد فيما إذا كان بالفعل قد قرأ بعض الكتب يومًا، أو عرفنا محتوياتها وظننا بأننا قرأناها من كثرة الحديث عنها

وعن بعض إشكاليات الإصغاء يُلمح المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي في كتابه "لا أملك إلا المسافات التي تُبعدني" إلى أنه شخصيًا لا يستطيع التأكد فيما إذا كان بالفعل قد قرأ بعض الكتب أيام ما كان طالبًا أم أنه عرف محتوياتها أو ظن بأنه قرأها وذلك من كثر الحديث عنها؛ وهذا الأمر الذي أشار إليه بنعبد العالي يمكننا تعميمه على نطاق واسع جدًا ليس فقط فيما يتعلق بقراءة بعض الكتب التي يتم النقاش حولها أمامنا أكثر من مرة، وحيث يظن الواحد منا بأنه غرف مضامينها، ووارد جدًا بأن يكون بعضُ مدّعي الاطلاع على كنه تلك المؤلفات لم يتصفحوها حتى، كما يتصفح رواد المقاهي الجرائد اليومية ممن يكتفون بقراءة العناوين فقط، كما أن هناك الكثير من الحوادث والقصص التي لا نعرف بالضبط فيما إذا كنا شهودًا على وقائعها بالفعل، أو كنا مشاركين في أحداثها في مراحل الطفولة أو الصبا، ومع ذلك يروي بعضنا مقاطع من أحداث وقعت أثناء طفولته الأولى مدعيًا بأنه عايش تفاصيلها، وذلك باعتبار أن كثرة الحديث عنها أمام ذلك الشخص دفعه للتصور بأنه كان واعيًا إبان الواقعة، وحيث أن كثرة تردادها من قِبل المحيطين بنا يخال إلينا بأننا شهدنا أو كنا حاضرين في كل تلك الحوادث، أو أننا كنا فاعلين فيها بحق، وبالتالي أن لوجودنا أهمية لا بأس بها في تكوين ذلك الحدث، وذلك كله من كثرة سردها أثناء حضورنا وسكبها حين تواجدنا في أكثر من مكان وزمان، عمومًا هذا الأمر يأخذنا كذلك إلى أماكن أخرى، ومناخات أخرى، وأجواء مغايرة من الاستماع والتلصص واستراق السمع.

اقرأ/ي أيضًا: طابور الثقافة الطويل

فمثلًا قد يأتي مَن يخدعك بقوله: إن مَن كنتَ تتحدث معه عن موضوعٍ ما قد أخبره من قبلُ بالتفصيل عما كنتم بالسر تتحدثون عنه، وذلك عندما يقوم بإسماعك فلاشات من سياق نفس الموضوع الذي كنتم تتحدثون به في أماكن خاصة جدًا، فيما كل غرضه من الحيلة هو بأن تسرد له باقي الموضوع كاملًا بعد بأن تتيقن منه بأن صاحبك قد أخبره بالمسألة من قبل، علمًا بأن صديقك لم يخبره بشيء قط، ولا أطلعه على أيّ سرٍ من الأسرار، ولكن النفر المتلصص لعله بطريقةٍ ما استطاع أن يسترق السمع ويحفظ بضعُ عباراتٍ من التي جاءت في سياق الحديث الذي كان يدور بينك وبين صديقك في السر، وهكذا انطلت عليك الحيلة وكشفتَ سرًا كان عليك كتمانه.

وثمة قصص محمودة ومنها مستقبحة فيما يتعلق بسرعة الحفظ عقب الإصغاء والاستماع المباشر، ومن القصص المحمودة جدًا لدى عشاق الفلكلور في منطقة عفرين في هذا الإطار، يُقال بأن مطرب الملاحم الفلكلورية الكردية إبراهيم تركو التقى يومًا في بازار ناحية جنديريس التابعة لمنطقة عفرين بالفنان الراحل جميل هورو، وبعد السؤال عن الأحوال الشخصية والعائلية والفن قال له: يا جميل الأعمارُ بيد الله وها انى كبيرُ في السن حاليًا، وما من أحدٍ منا بقادر على أن يضمن استمرار حياته ولو ليومٍ واحد، وأنتَ يا جميل الوحيد القادر على أن تحفظ أغنية kelha beyazîdê قلعة بيازيد، لأنني أخاف من مغادرة الدنيا فجأةً ولا يحفظها أحد وينقذها من التلاشي ـ باعتبار أن الأغاني حينذاك كانت تُنقل شفاهة ولم يكونوا قد اهتموا بموضوع الكتابة والتدوين بعد، فتمنى له جميل هورو بدايةً بدوام الصحة والعافية والعمر المديد، وقال له: طالما أن الموضوع يشغل بالك إلى هذه الدرجة وأنت حريص على أن تصل الأغنية للأجيال القادمة، وألا تمت معك الملحمة بعد عمرٍ طويل، ما رأيك بأن تغنيها الآن يا عم إبراهيم؟ فرد إبراهيم، وهل ستحفظها؟ قال جميل: إن شاء لله سأحاول جاهدًا ذلك، فغناها إبراهيم تركو مرةً واحدة أمامه على مرأى ومسمع جميع مَن في السوق، فقال له جميل هورو: هل تقدر أن تعيدها مرة أخرى يا عم إبراهيم؟ فقال إبراهيم طبعًا، وبدأ بالغناء مرة أخرى وإلى أن انتهى من الغناء في المرة الثانية كان المتسوقون قد اجتمعوا حول صاحب الصوت، إذ كان معروف عن إبراهيم تركو أن صوته لم يكن بحاجة إلى ميكرفونات من قوته، وبعد أن أنهى تركو الغناء للمرة الثانية قال له جميل هورو بأنه سيعيد الأغنية أمامه لكي يرى إن كان قد حفظها بالشكل المطلوب أم لا، فغنى جميل هورو الأغنية أمام إبراهيم تركو بحضور العامة كما لقنه إياه الأغنية، فبلغ تركو عندها حالة من الانشراح التام بعد أن اطمأن على مصير الأغنية وحماها من الزوال، وهكذا استطاع جميل هورو من خلال سرعة البداهة والإصغاء الجيد والحفظ السريع أن ينقذ أغنية قلعة بيازيد (kelha beyazîdê) من الضياع والاندثار، وسجلها فيما بعد في كاسيتٍ خاص بالأغنية.

استطاع جميل هورو من خلال سرعة البداهة والإصغاء الجيد أن ينقذ أغنية قلعة بيازيد من الضياع والاندثار

بينما من القصص المستقبحة نوعًا ما في إطار التلقف السريع، هو أن بعض الناس حالهم يكون كحال الطفل الذي يذكر أحدهم قصة أمامه فيحفظها عن ظهر قلب، وبالرغم من وعيهم التام بزمن الحدوتة وعناصرها والشخصيات المشاركة فيها، متى قيلت، ومَن قالها بالتحديد، راح الطفلُ بعد حفظ تلك القصة التي قيلت في حضرته يدّعي في الكِبرِ بأنها جرت معه، وأنه كان من العناصر الرئيسية والفاعلة فيها.

اقرأ/ي أيضًا: لعلّ الجواب عند ماسلو

ومن الشخصيات الحية التي تستقي معلوماتها وتتلقف علومها ومعارفها عبر السمع، بالرغم من أن واحدهم غير منتمٍ إلى عالم العميان لكي يتطوع الآخرون ويقرأوا لهم ما يحبون، كما كان الحال مع الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، عدة نماذج تخطر ببالي الآن، وأود ذكرها في هذه المادة ليس من باب التشهير بأحد لا قدّر الله، إنما من باب إغناء الموضوع فحسب.

ومن هؤلاء أحدهم من قوة آلية الحفظ لديه كنا نخشى من ذكر أي موضوع أو حديث أمامه، لأنه كان يتلقفها بسرعة البرق، ومن ثم يبدأ بإشاعتها في الحي، وخوفًا من انتشار كل ما نقوله في حضرته، ولأجل التشويش عليه اتفقنا نحن آنذاك، أي رهط من شباب الحي بأن لا نسرد أي موضوع كامل في حضرته، إنما أن نجعل المنطوقَ أمامه على شكل مقتطفات مفصولة عن بعضها، وبأن نجعل بين القصة فقرات غامضة، أو فراغات تحرمه من سهولة تلقف ما نقوله أمامه في المسامرات والأماسي التي نجتمع فيها، ومرات كنا نحشر بعض المصطلحات الإغريقية التي يصعب حفظها من قبل ذلك الناقل بين طيات ما نبوح به في حضوره، أما إذا كنا نود لموضوعٍ ما أن يكون في متناول كل المعارف، فكنا نسردها كاملة وبالتفصيل أمامه، وذلك لكي يحفظها كلها كما نريد ويُخبر كل من يعرفهم عنها، وطبعًا بخصوص حرمانه من كامل القصة لم يكن تصرفنا قائم على الغيرة أو الحسد أو ضيق العين لا سمح الله، إنما لأن ذلك الشخص لم يكن نزيهًا ولم يكن لديه ثوابت أخلاقية، لذا كنا نخشى من أن يوظِّف كل ما يقال أمامه لاحقًا لأغراض خبيثة وأهداف شخصية غير نظيفة مختلفة كليًا عن السياق الذي جرت فيه الحادثة أو الموضوع.

كثيرة هي الشخصيات التي تستقي معارفها عبر السمع في المجالس، لكنها تدعي لاحقًا أنها استقتها عن طريق القراءة

وثمة نموذج آخر من سارعي التلقف تحدث عنهم الفنان التشكيلي والروائي عبدو خليل في حلب عام 2011 على ما أذكر، إذ قال بأنه في إحدى المرات كان قد انتهى لتوه من قراءة رواية للأديب السوري سليم بركات جاء بها من دمشق، وكان متأكدًا بأن الرواية وقتها لم تكن قد وصلت إلى مكتبات حلب، وفي المقهى بحضور ثلة من رواد المقهى راح يتحدث أمامهم عن الرواية وأهم الأبواب والمحاور التي ركز عليها الروائي، ولكنه فوجئ بعد أقل من اسبوع بأحد ممن كان يستمع إليه في المرة الماضية وهو يتحدث عن الرواية ويسرد نفس الكلمات والجمل والعبارات أمام رهط آخر في المقهى، كأحد الذين قرؤوا الرواية من الغلاف للغلاف! عندها عرف صديقنا بأن هذا الشخص لا يقرأ البتة، إنما يسمع عما يقال عن الكتب في المقهى من هذا وذاك، وبناءً على ما تلقفه يبدأ بالحديث عن الكتب والمطبوعات وآخر الإصدارت من الدواوين والروايات والمجلات، ليخال لجالسه بأن الرجل متابع للشأن الثقافي المحلي والعربي والعالمي أول بأول!!

اقرأ/ي أيضًا: دولة المواطن المتعثرة

وبودي أن أختم المقالة بنموذج آخر من نفس القائمة المعولة على الاستماع وحده من دون أن يزعج خاطره بقراءة أصغر كتاب، سواء ضمن تخصصه أو في المجالات العلمية أو الثقافية الأخرى، علمًا أن هذا النموذج محسوب على أهل الثقافة فهو فنان، عازف ومغني في بعض الأحيان، وفي إحدى زياراتي لدار المدى بمدينة دمشق السورية عام 2007 اشتريتُ كتاب "أسرار الموسيقى" للمؤلف العراقي الراحل علي الشوك، وقلتُ في سري بأنها قد تسر صديقي الفنان إن قدمتُ الكتاب له كهدية فور وصولي إلى مدينة حلب وزيارتي له، وبعد أن أهديته الكتاب بشهر وفي زيارةٍ لي استفسرت عن الكتاب عما إذا كان قد استفاد منه أم لا، لكنه قال بأنه لم يقرأه بعد، وهكذا مضت الشهور والكتاب على حاله، علمًا بأنه شخص غير ملتزم بأيّ عمل أو وظيفة، والفراغ في حياته أوسع من ملاعب كرة القدم، وفي آخر زيارةٍ لي إلى منزله لاحظتُ بأن الكتاب ما يزال على حاله ولم يُمس بعدُ، وحيث كان قد مضى على مكوث الكتاب لديه أكثر من سبعة أشهر، فقلت له متسائلًا هل أعجبك الكتاب ومحتواه؟ ولأنه لا يجرؤ على القول بأنه قرأه، مخافة أن يُكتشف أمره من خلال حديثه عن مضمونه، فقال: صراحةً ليس لي مزاج وصبر مع القراءة وما زلت منتظرًا أحد طلابي بأن يقرأه لي ويلخص محتواه!

 

اقرأ/ي أيضًا:

جرائم لا يحاسب عليها القانون

أُمِّية الطغيان