04-يوليو-2021

صرّاف آلي مدمر في بيروت (Getty)

إثر انفجار فقاعة العقارات في الولايات المتحدة بين عامي 2007 و2008، والتي أدت إلى انهيارات مثيرة في مجمل الاقتصادات العالمية، استمعت لجنة برلمانية إلى آلان غرينسبان، الذي كان رئيسًا للاحتياطي القومي الأمريكي قبل تقاعده بوقت قليل من انفجار الفقاعة. وحين سأله أحد الحقوقيين عما إذا كان قد لاحظ خطرًا ما يحيق بالاقتصاد الذي انفجر على حين غرة خلال السنوات الأخيرة؟ أجاب بما يلي: لا أدري، كانت الأمور تسير في مسار رائع، ولم يكن ثمة ما ينبئ أن الانفجار مقبل.

لم يتورع مصرفيو الولايات المتحدة والقائمون على سياساتها المالية، من نفخ فقاعة العقارات كما لو أنهم ما كانوا يريدون إلا انفجارها. وما إن انفجرت حتى تنصل الجميع من مسؤولياته

هذه الإجابة لا تصدر عن سذاجة أو جهل. بل هي تعبر عن واقع الحال في الاقتصاد الحديث. يجدر بالمسؤول المالي أن يتأكد من سلامة وضع المقترض، لكنه لا يستطيع أن يتأكد من نواياه. فأن يشتري مواطن ما بيتًا أعجبه ليعيش فيه، أمر يختلف عن شرائه بيتًا لأنه يعتقد أنه سيربح أموالًا طائلة إذا ما باعه بعد أشهر بسبب حمى المضاربات. لكنه في الحالين قد يكون قادرًا على تقديم أوراق وضمانات كافية لتقنع المصرفي بإعطائه قرضًا. لكن مسؤولية المصرفي القاطعة، والتي لا تقع تحت حد القانون، تلزمه، أخلاقيًا على الأقل، بأن ينظر بعين الريبة والشك إلى القروض التي لا تني ترتفع قيمتها بشكل يومي خلال انتقال ملكية عقار ما من شخص إلى آخر خلال وقت قصير بشكل قياسي. إذ ما الذي يعنيه أن تشتري عقارًا في الشهر الأول من السنة بقيمة معينة لا تلبث أن تتضاعف قبل انتصاف العام؟ ألا يجدر بالمصرفي أن يتساءل ما الذي ترتفع قيمته وما الذي تنخفض قيمته في هذه المعادلة؟ فإذا كان مبلغًا من المال يساوي قيمة عقار ما اليوم، فكيف يمكن أن يصبح هذا المبلغ بعد أشهر أقل من نصف قيمة العقار نفسه؟ هل انخفضت قيمة العملة؟ أم ارتفعت أسعار العقارات؟ أم أن الأزمة تضرب الجانبين؟ طبعًا لم يكلف المصرفيون والمقرضون أنفسهم عناء مثل هذه الأسئلة. كانت القروض تحقق أرباحًا سريعة، والمشترون يحققون أرباحًا أسرع. وكان كل شيء على ما يرام. إنما ولأن كل شيء كان على ما يرام، بل وأفضل مما يرام، انفجرت الفقاعة وتبخرت الأموال وانحدرت قيمة العقارات ومعها كل مناحي الاقتصاد المتصلة بها. عدد هائل من أحجار الدومينو تساقطت في طرفة عين.

اقرأ/ي أيضًا: القضايا حين تتقمص أجسادًا

ما زلنا نتحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الاقتصاد، يعني هذا الأمر مجموعة من العوامل المعقدة، والتي تتصل بقوة الدولة، عسكريًا وسياسيًا وماليًا واستهلاكيًا، وبريادتها المستمرة منذ عقود في مجالات الابتكارات والاختراعات الجديدة، وبقدرتها الفائقة، والتي لا تنافسها فيها أي دولة أخرى على فرض سلعها وابتكاراتها وأنماط عيشها على العالم برمته. ما يتيح لها أن تصنع ثروات من العدم، من خلال رفع أسعار المساحات المهملة في طول البلاد وعرضها وجعلها بسرعة فائقة مدنا حديثة، ومن خلال تحكمها المطلق بمسارات أموال التجارة العالمية، وقدرتها على استعارة مبالغ هائلة من أموال العالم كله، والتصرف بها مؤقتًا. ومع أن الحديث عن الولايات المتحدة التي لا مثيل لها في الاقتصاد عالميًا، فهذا لم يمنع مصرفييها وخبرائها الماليين من السقوط في هوة الانفجار المذكور أعلاه. فكيف يكون الحال لو كنا نتحدث عن بلد صغير كلبنان؟

في هذا البلد الذي يكاد لا يملك عملة وطنية، وكل ما فيه تم تقييمه وتقويمه بالعملات الأجنبية، لم يتورع مصرفيوه والقائمون على سياساته المالية، من نفخ الفقاعة هذه كما لو أنهم ما كانوا يريدون إلا انفجارها. وما إن انفجرت حتى تنصل الجميع من مسؤولياته، كما لو أن الأمر يشبه حادث سير يجدر بنا تسجيله في خانة الحوادث العرضية. تمت سرقة بلد بكل موارده عيانا وعن سابق تصور وتصميم، ولا يتورع قادته اليوم عن دعوة الدول العربية المقتدرة لمساعدة البلد الذي نفخوه حتى انفجر. والأدهى من هذا كله، أن رئيس جمعية المصرفيين اللبنانيين الذي أعيد انتخابه قبل أيام، لا يتردّد في اتهام السلطة السياسية بسرقة أموال المودعين والمصرفيين على حد سواء. وتبرئة جمعيته من كل ذنب مقصود أو غير مقصود.

المدراء التنفيذيون الذين تسببت سياساتهم المتسرعة والخرقاء بانفجار فقاعة الرهن العقاري سرعان ما انتقلوا إلى وظائف أعلى أجرًا من تلك التي كانوا يشغلونها قبل الانفجار

اقرأ/ي أيضًا: عصر إنتاج النقود

على خلفية الانهيار العقاري في الولايات المتحدة، أعد ريتشارد سينيت دراسة ميدانية، شملت مقابلات مع مدراء وموظفي وول ستريت وعدد من المصارف الكبرى في تلك الفترة. وخلصت الدراسة أن المدراء التنفيذيين الذين تسببت سياساتهم المتسرعة والخرقاء بانفجار الفقاعة سرعان ما انتقلوا إلى وظائف أعلى أجرًا من تلك التي كانوا يشغلونها قبل الانفجار. كما أن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما وجدت نفسها مضطرة لتمويل حيتان الشركات الكبرى لئلا يفاقم انهيار هذه الشركات من حجم المعاناة المعيشية والاقتصادية للأمريكيين. والخلاصة، في مثل هذه الجرائم، يصعب على الناس والقانون أن يتمكنوا من محاسبة مرتكبيها. ومع أن هؤلاء المرتكبين بشر وقد يكونون محدودي الذكاء، إلا أن الشعوب مضطرة لتحمل عواقب حماقاتهم على نحو غالبًا ما يكون كارثيًا. هذا في الولايات المتحدة، أما في لبنان، فالأرجح أن مصرفيي هذا البلد يحضرون أنفسهم لادعاء دور المنقذ والبطل، وتحميل وزر جريمتهم للآخرين. كل الآخرين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رونالدو وصراع العلامة التجارية

سعداء ذات صورة