يجادل علماء الاجتماع بأن الظاهرة الدينية ما هي إلا توليف خلّاق بين ظاهرتين؛ تشتمل الأولى في بنيتها الداخلية على ظاهرة تجلي المقدس (الله) و تفاعله مع التاريخ المتعين لجماعة بشرية بذاتها (مجتمع شبه الجزيرة في الحالة الإسلامية)، عبرعملية الوحي، المقدمة المنطقية لنشوء ما يسمى النص التأسيسي الأول (القرآن الكريم)، الذي يشرح البنية العقائدية للدين الجديد ومجمل الشرائع والقيم الأخلاقية الحافة به، التي تفرض على جميع أفراد المجتمع الإلتزام بها وفق ثنائية (حرام/حلال). في الوقت الذي تذهب الظاهرة الأخرى لتحديد الطريقة التي يتم فيه إدخال تلك العقائد والشرائع إلى صميم الحياة اليومية للمؤمن، خالقة ما يعرف بظاهرة التدين.

إذا كان الدين يتصدى لإشباع الحاجات الفكرية والعقائدية والوجودية للكائن البشري، فإن التدين يتصدى لإشباع حاجاته النفسية والاجتماعية

في حين يتصدى الدين لإشباع الحاجات الفكرية والعقائدية والوجودية للكائن البشري، فإن التدين يتصدى لإشباع حاجاته النفسية والاجتماعية. فإذا كان الجانب العقائدي للدين يحدد موقع الإنسان في دائرة الوجود من حيث كونه واحدة من ذرى الحقيقة الثلاث: الله ، الإنسان، الطبيعة.. فإن الجانب الوجودي منه يستجيب صراحة للقلق الوجودي للفرد المهدد بالفناء عبر حقيقة الموت. فعن طريق ميثاق النجاة بين الله والكائن المؤمن بقدرته، يلعب الله دور الضامن لدخول الفرد في عالم الحياة الأبدية، الجنة، حيث الوعد القاطع بخلود الفرد الموعود جسدًا وروحًا، على النحو الذي عاشه في حياته السابقة.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟"

إذا كان للديني أو المؤمن أي يُعرف من خلال انتسابه إلى ديانة ما ذات خصوصية عقائدية أو تشريعية، فإن المتدين عادة ما يُعرف من خلال التزامه بمجموعة من الطقوس والشعائر والعبادات الخاصة بتلك العقيدة، الأمر الذي يجعلنا نميّز بين مسلم واحد على سبيل المثال ومتدينين كثر، ففي حين نعثر على متدين رسمي وآخر شعبي، فإننا لن نخطئ وجود متدين سلفي، وآخر بالضد منه حركي أو حزبي، وصولًا إلى تعرفنا على متدين مديني، يلائم بين الحداثة والعقيدة.

عادة ما يتم التعرف على طبيعة التدين الشعبي بالمقارنة مع التدين الرسمي، ذلك أن التدين الشعبي ما هو إلا تدين قد نشأ وتطور في المنطقة التي لم تستطع فيها المؤسسة الرسمية الهمينة والرسوخ. ففي حين أن القرآن والسنة والمذاهب الفقهية ظلت هي المصدر التي يمتح منه التدين الرسمي طقوسه في الصلاة والعبادات والمعاملات، من خلال التشجيع على الممارسة الطقوسية للصلاة عبر الفعل الجماعي في داخل الجامع، كما من خلال حضور الأدعية، التي هي خطاب مباشر من العبد إلى ربه، في جميع مواقفه الحياتية، وصولًا إلى ترسيخ الحكم الديني في حياة المسلم في جميع شؤون حياته عبر الفتوى، التي تغطي كل شاردة وواردة في معاملاته اليومية على صعيد الأسرة كما على صعيد العمل والتجارة، فإن المصدر الخاص بالتدين الشعبي ظل ينتمي إلى عقائد سابقة لعقيدة التوحيد الإسلامية.

إذا قدر للتدين الرسمي أن يؤسّس مشروعيته على القراءة الفقهية للنصوص التأسيسية (القرآن والسنة)، فإن التدين الشعبي قد استند في مشروعيته إلى التصور الشعبي القديم، القائل بفكرة تجلي أو ظهور المقدس في شخوص محددين أو أماكن بعينها، تنحو لأن تمتلك خاصية القداسة بحد ذاتها على النحو الذي يجعلها قابلة للانتقال عبر تقنية العدوى.

استند التدين الشعبي في مشروعيته إلى التصور الشعبي القديم، القائل بفكرة ظهور المقدس في شخوص محددين أو أماكن بعينها

بالاضافة إلى فكرة تجلي القداسة تلك، فإن التدين الشعبي يظل يربط نفسه بتصور سحري عن مفهوم الله ذاته، فما الله وفق ذلك العرف سوى كائن له جميع الصفات المشخصة، التي بموجبها يحزن ويفرح ومن ثم يتسجيب لرغبات الكائن الواقع في المحنة، حتى ولو أدى ذلك إلى خرقه للقوانين الطبيعية التي قام بوضعها.

اقرأ/ي أيضًا: الموالد.. بين الدولة والسلفيين والمثقفين

عمل بعض علماء الإناسة جاهدين لأن يجدوا تفسيرا لظاهرة التدين الشعبي، وعلاقتها العميقة بالقدسي وظهوراته المكانية، فرأوا أنه ليس سوى سمة جوهرية من سمات الديانات الكبرى، التي يفتقد فيها التدين الرسمي قدرته الطقوسية على إشباع الحاجات الروحية لاتباعه، نتيجة لاتصاف آلهته بالتجرد المطلق، الذي يفرض عليها التعالي عن حياة الناس اليومية، الأمر الذي يشكل لديهم نوعًا من الردة إلى نوع من الآلهة المتعددة والمشخصة على النحو الذي سبق لآبائهم أن عايشوها يوما في عبادتهم لآلهة الخصب الوثنية.

إلا أن ذلك التفسير لا يأخذ بعين الاعتبار بحقيقة أن تلك التصورات القديمة عن الآلهة المشخصة، لم تكن غابئة عن وعي الناس الذين عاشوا في المناطق البعيدة عن مركز الدولة الإسلامية، والذين ظلوا لفترة طويلة يمارسون طقوس ديانتهم القديمة، جنبًا إلى جنب طقوس الديانة الجديدة خاصة في الصلاة والصيام.

إذا ما قدر للمرء أن يحصر أهم الممارسات أو الطقوس التي أمكن للتدين الشعبي التجلي من خلالها، لوجدها في زيارة مقامات الأولياء، أو التردد على الأماكن التي كانت تشهد نوعًا من التداوي بالقداسة، أو ما يسمى بالطب النبوي، كما في اللجوء المتفشي للممارسات السحرية.

إن السيد أو السيدة المحزونة التي تؤمن بالتدين الشعبي لا تقصد مزارات الأولياء أو مقامتهم بقصد التعرف على حرارة التجربة الصوفية، ومردافاتها من الفناء في الذات الإلهية على غرار الراسخين في المذهب الصوفي، بقدر ما كانت تذهب وفي ذهنها الغرف من البركة أو القداسة المتمثلة في مقام الولي الصالح، الذي قدر له التواصل مع الذات الالهية يومًا ما، والتي حاز بموجب ذلك التواصل على منحة أو عطاء إلهيا لا ينضب، بإمكان قاصديه الحصول عليه دون حواجز أو موانع تذكر.

إن إيمان المتدين الشعبي بهالة القداسة المحاطة بقبر الولي، تشكل بالنبسة للمتدين مدخلًا مناسبًا لمساعدته في تفريغ الشدة النفسية التي يجثم تحت وطأتها، فهي المخرج الوحيد المتوفر للشخص العاجز عن التحكم في طبيعة ظروفه الحياتية. إن تلك الطقوس وغيرها من طقوس المشاركة في الموالد الشعبية، أو حفلات الرقص الصوفي، كما حفلات الزار واستخراج الشياطين، لا تشبع عند المتدين الشعبي حاجته النفسية وحسب، بل حاجته الاجتماعية، من حيث حصوله على حاجة الاعتراف به كشخص له قيمة واعتبار في الوسط الاجتماعي الذي يحيا فيه.

يظل عدم اليقين والفقر يدفع بالطبقات الشعبية للبحث عن نوع خاص من اللقاء بالقدسي على النحو المعاش في التجربة الصوفية

يصر بعض الباحيثين على دمج التدين الشعبي بطقوس (زيارة المقامات، الطب النبوي، الممارسات السحرية)، بتدين مريدي الطرق الصوفية المنتشرة بكثرة في مراكز المدن الكبرى أو في بعض زوايا القرى، متناسين عمدًا أن التدين الصوفي ما هو إلا تدين خاص ينتمي في حقيقته للتدين الرسمي. التدين الصوفي شأنه شأن التدين الرسمي، يستمد طقوسه الأساسية من العقائد المبثوثة في القرآن والسنة، وهو أقرب للتدين المجرد الذي يتعامل مع الله بمفاهيم الحب والفناء الإلهيين، منه لمفاهيم الآلهة المشخصة.

اقرأ/ي أيضًا: "الجهاد في الغرب".. مُحاولة لفهم السلفيّة المُقاتلة في صورتها الأوروبيّة

أدى التطور في وسائل الإعلام كما وسائل الاتصال الحديثة، إضافة لانتشار التعليم الرسمي في المناطق النائية، ناهيك عن النقلة النوعية في تقنيات الاستشفاء الخاصة بمشاكل العقم والأمراض المستعصية، إلى نزع السحر عن العالم وجعله مرئيًا على نحو لم يكن تصوره على هذا النحو الصارخ. مع ذلك فإن ظروف عدم اليقين وقلة سعة اليد التي ما تزال ترزح تحتها الطبقات الشعبية، تظل تدفع بها للبحث عن نوع خاص من اللقاء بالقدسي على النحو المعاش في التجربة الصوفية، فالقداسة كما العيش على تخومها أو داخلها ما تزال تشكل إغراء للمتدين الباحث عن حرارة التجربة الدينية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فاس.. حاضرة التصوف الإسلامي

موالد القديسين في مصر.. بهجة البسطاء والمريدين