23-يناير-2022

كاريكاتير لـ فيستوفورو/ تشيلي

في ظل تقلب أسعار بيتكوين العشوائي في أسواق المضاربات، ينقسم الفضاء الرقمي إلى خطابين فلسفيين متناحرين. الأول يهاجم هذه العملات الرقمية بوصفها أكبر عملية احتيال وغسيل للأموال، والثاني يربطها بخطاب تقاني خلاصي ينطلق من وجود "أفكار كبرى" تحملها التكنولوجيا الأم، البلوكتشاين، المتيحة للتهرب من السلطات المركزية وإعادة السلطة للمستخدم.

ثمة فريقان وخطابان حول العملات الرقمية، الأول يهاجمها بوصفها أكبر عملية احتيال وغسيل للأموال، والثاني يربطها بخطاب تقاني خلاصي

فالفريق المدافع تأسس من تحالف عريض جمع تقنيين مبرمجين ومستثمرين ليبرتاريين (libertarian) يؤمنون بحكومة صغيرة، ذات سلطات محدودة على الأسواق وبنظام اقتصادي مفتوح على مصراعيه، متروك لآلية تطور تقودها الملكيات الخاصة، والخيارات المفتوحة في العلاقات التجارية والاستراتيجيات الربحية الحرة. وهذه الأفكار تقدس الحرية والملكية الفردية، وتمتعض من تدخل الحكومات والمشرعين في أحوال السوق.

اقرأ/ي أيضًا: بيتكوين: أيديولوجيا إهدار الثروات والموارد

يتشكل مناصرو هذه العقيدة من نسيج يختلط فيه رواد اليمين واليسار وعلى مدى واسع من تشعب هذين التيارين. الفكرة المؤسسة لهذا النسيج تتمحور حول الحق الأخلاقي للأفراد بالتملك المشروع وتجميع الثروات. وهو حق مستمد من حق آخر وهو حق الأفراد في التحكم والتصرف بأجسادهم وقوة عملهم وحيواتهم بعيدًا عن قوة الحكومات وسلطتها، خصوصًا عند تدخلها لقمع هذه الحرية أو فرض قيود على ثروات الأفراد والاستحواذ عل بعض منها تحت حجة حماية المجتمع وتقديم الصالح العام على الخاص. هذه الحقوق تجد تمثيلها عمليًا بالنواة المؤسسة لتكنولوجيا البلوكتشاين، من حيث بنيتها التقنية وهندستها التي تتيح شفافية عالية وحماية تشفيرية رادعة ومحاسبة تدقيقية عالية الأمانة والدقة. كما تستمد تمثيلها من حيز مواز يتحدد في ارتباطها بقوة عمل المبرمج العامل في تعدين كتل السلسلة تلك، والتدقيق في التحويلات المالية بين المحافظ الرقمية وأيضا حق متملكي هذه العملة الرقمية في استعمالها وتداولها بعيدًا عن السلطات المركزية. ويؤازرهم في هذا، أفراد ومؤسسات استثمارية تريد الهروب من فكي المشرع وسلطة الحكومات المركزية.

غير أن ما هو جدير بالملاحظة هنا أن هذه الأفكار التقنية التحريرية تجد عمقًا خلاصيًا مؤسسًا في حركة البرمجيات المتاحة (Open Source)، والتي ظهرت رسميًا عام 1998 عقب إطلاق متصفح الإنترنت نيت سكايب في كاليفورنيا. وهي حركة مبرمجين رأت أن تضافر سواعد هذه الشريحة عالميًا، عبر إتاحة الكودات المؤسسة للبرمجيات للاستخدام العام في حراك تعاضدي، يوسع من انتشار هذه البرمجيات بين جماعات المبرمجين ويعطيهم سلطة مؤثرة تقاوم تسلط الشركات الكبرى واحتكارها. غير أن هذه الحركة، وعلى الرغم من انتشار وتسيد هذه البرمجيات المتاحة في مجمل الصناعات الرقمية الآن، منيت بخسارة كبرى ابتدأت بتشتت نت سكايب عقب إطلاق مايكروسوفت متصفحها إنترنت إكسبلورر، ولاحقًا بتبني فايسبوك وغوغل لفلسفة البرمجيات المتاحة تلك، وبالتالي نشر هذه البرمجيات وتغذيتها الحثيثة الهادفة إلى تسريع نمو هذه الشركات وتربعها على عرش اقتصاد المستخدم الذي نعيشه الآن وبالتالي تغيير بنية الاقتصاد العالمي.

التلاقي بين مشجعي اليمين واليسار في هذه الشريحة يظهر في تقاطع عدة قِيَم تشكل سردية الخطاب الليبيرتاري المؤسس. تلك النقطة التي جعلها الفيلسوف البريطاني جون لوك أساسًا لنظريته حول قيمة العمل والتملك. لوك يرى أنه عندما يصرف أفراد قوة عملهم على أشياء كانت مجهولة من قبل يحق لهم عندها أن يضموها إلى ملكيتهم الخاصة. طبعًا لوك لم يستطع ترك باب التملك مفتوحًا على مصراعيه، فأضاف بندًا أخلاقيًا مفاده أن الاستحواذ بقوة العمل جائز طالما أن ما بقي للآخرين كاف وجيد. وهذا الباب، باب المساواة، هو ما يجعل الفلسفة الليبرتارية أشبه بمروحة أفكار تتجه من اليمين إلى اليسار، في محاولة لمواءمة الحرية والملكية الفردية والمساواة مع مقاومة حثيثة لتدخل الحكومات والسلطات الحاكمة في حرية وملكية الأفراد الخاصة كما في عمل الأسواق.

ينطلق الليبرتاريون في تعليلهم فقدان الثقة بالحكومات، بأنها عادة ما تلجأ إلى دافعي الضرائب لإنقاذ فشل الشركات الكبرى والمصارف المتعثرة

وفي هذا أيضًا، يظهر تشكل هذه التوجهات على سمت من التناقض البنيوي الذي تزينه ادعاءات الاعتراضات والحجج التي تسوقها هذه التوجهات في وجه السلطات المركزية. فمن جهة أولى، ينطلق الليبرتاريون في تعليلهم فقدان الثقة بالحكومات، بأنها عادة ما تلجأ إلى دافعي الضرائب لإنقاذ فشل الشركات الكبرى والمصارف المتعثرة، وصولًا إلى تمويل صناديق التعاضد وتعويضات نهاية الخدمة الحكومية وما في ذلك من قمع لحقوق الأفراد في تسيدهم على ممتلكاتهم. ومن جانب آخر يلوم قسم منهم بطء المشرع في التدخل السريع لوضع ضوابط منع الاحتكار. وفي هذا التناقض ما يغذي شعورهم بالغبن والإحباط ويؤجج سعيهم لإيجاد سبل تساعدهم في تجاوز تسلط الحكومات والسلطات المركزية.

اقرأ/ي أيضًا: كيف نصنع سلطة ونخضع لها؟

هذا التقاطع بين اليمين واليسار يعود وينعكس في المقابل من خلال النزعات الأناركية اليسارية الذي تلون الأفكار الليبرتارية، خصوصًا في تجلياتها في أفكار باكونين وبرودون، إذ إن باكونين وفي مساعيه لاستنهاض الحركة الأناركية في القرن التاسع عشر نظر إلى هذه الحركة كقوة ضاربة تواجه، بعناد، بعدين: البعد الاستغلالي في الليبرالية والبعد القمعي في الاشتراكية. غير أن أفكار باكونين الأناركية كانت متقدمة على المفهوم الثوري ومفترقة عنه جذريًا، إذ أنه رأى أن الحركة الأناركية لا يمكن أن يقودها دكتاتور فرد، بل هي حركة قيادة مشتركة مجهولة ومتخفية ومتشكلة من هؤلاء الذين يريدون تحرير البشر من كل أنواع الطغيان، متوحدين في جمعيات سرية يعملون بتناغم وفي سبيل هدف موحد.

وأحسب أن هذه البنية الأناركية الرافضة المؤطرة في أفكار باكونين، والأفكار الليبيرتارية التي تلتحف بالحرية والملكية الفردية، هي ما يمكن ملاحظته اليوم متشابكا بقوة عبر تجمعات سرية عالمية عابرة للدول ومنخرطة في بنية خطاب الكريبتو اللامركزي التقني والسياسي وأيضا كشريحة مستخدمين أساسية لهذه العملات الرقمية. ومن نافل القول إن مؤسس بيتكوين هو مبرمج متخف وغير معروف أعطى نفسه اسما وهميا، ساتوشي ناكاموتو، عقب إطلاق عملة البتكوين رسميا في 2009. وعلى هذا الغرار أيضا فجماعات سرية متل أنونيموس التي تتخصص في عمليات الاختراقات الإلكترونية، تنشط في هذا المضمار أيضا بزخم كبير، وتبني بشكل متصاعد خطابا اعتراضيا على سلوك أيلون ماسك أحد أكبر العرافين والمستثمرين في أسواق الكريبتو، وتمثل اعتراضها مؤخرا بتوجيه اتهام حاد لماسك تحمله مسؤولية تدمير حياة الكثيرين بتغريداته حول الكريبتو، وواتبعت اتهامها بإطلاق عملتها الخاصة لتثبيت انشقاقها عن مسار الخطاب الذي يخطه أيلون ماسك واتباعه ومناصروه. وفي حيز مواز، تظهر هذه الصلة البنيوية بهذه الأفكار المؤسسة في خطاب هذه الجماعات الأناركية المتخفية، في سلوك فريق ويكيليكس الذي اتجه عقب نشر الوثائق المسربة إلى جمع تبرعات عبر شبكات بلوكشاين وغيرها. وهو ما دفع السلطات المركزية والمشرعين إلى وضع هذه العملات على قائمة الريبة والشك ومباشرة مسار السياسات الضابطة لها.

ومن المثير للاهتمام هنا، هو رفض ساتوشي، مؤسس بيتكوين الوهمي، في آخر ظهور له في غرف المحادثات الافتراضية عام 2010، لهذه الخطوة من ويكليكيس، وتمنيه على ممثليها الإحجام عن استخدام بيتكوين لجمع التبرعات. ورفض ساتوشي هذا ليس رفضًا أخلاقيًا، إنما تموضع براغماتي، انطلق من طراوة عود بيتكوين آنذاك، والخوف من تحميلها تبعات وأكلاف ثورية لا قدرة لها على تحملها. وهذا الرفض هو إشارة قوية إلى الاختلافات الفكرية حول أولويات هذه الشرائح الاجتماعية والتقنية. وهذا التصارع على الأولويات هو لب التناقض التي سيطر على أفكار الحركتين الليبرتارية والأناركية على مدى التاريخ. وهو تناقض ثقافي وفلسفي في الدرجة الأولى، يطرح تساؤلات تكتيكية وأخلاقية عند كل مفترق طرق ويتجلى في سؤال تفاضلي براغماتي، هل نهادن السلطات لنستجمع قوانا ويتصلب عودنا أم أننا في هجوم مستمر بلا هوادة؟

ينطلق منتقدو بيتكوين من معطى تاريخي بحت، ويستندون في اعتراضهم على عملات الكريبتو عامة إلى أمثلة تاريخية تم فيها التهليل للتكنولوجيا والاندفاع خلفها وتقديمها بخطاب يوتوبي خلاصي

ينطلق منتقدو بيتكوين من معطى تاريخي بحت، ويستندون في اعتراضهم على عملات الكريبتو عامة إلى أمثلة تاريخية تم فيها التهليل للتكنولوجيا والاندفاع خلفها وتقديمها بخطاب يوتوبي خلاصي، ثم انتهت تلك التكنولوجيا لعبة طيعة في أيدي حراس الهيكل. وعمدة هذا الاتجاه النقدي هو سؤال عن مدى تواطؤ هذه التقنيات في شراكتها مع رأس المال الاستثماري وجنوحها للركوب على آليات المضاربة في الأسواق المالية سعيًا للنمو والانتشار. هذا السؤال يحضر الآن بقوة، حيث إن بيتكوين كمخزن قيمي للأفراد مستقل عن السلطات المركزية وسلطة المشرع، وفضاء حافظ لحقوق الأفراد في التملك، لم يكن ليكون ما هو عليه الآن، لولا تلك الشراكة العضوية مع رأس المال الاستثماري والاندراج في آليات المضاربة في الأسواق المالية. وهذه الشراكة، واندفاع الاستثمارات لحمايتها وتنميتها في تصاعد تسارعي، هما مؤشران سلبيان، يطعنان صدقية الخطاب الخلاصي. الريبة المتصاعدة من هذه الشراكة المتينة، تتغذى أيضًا من مقارنة بين مسارها ومسار مثيلاتها وأشباهها، وتستقرئ تاريخ عمليات الدمج والاستحواذ في أسواق التكنولوجيا كما وثقها تيموثي وو قبل عقد من الآن، وهو الآن للمفارقة من ضمن فريق عمل الرئيس الأمريكي جو بايدن كمسؤول عن سياسات المنافسة التكنولوجية.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يجب أن يقلق العالم من ازدياد قوة الدولار؟

في 2011 في خضم ثورات الربيع العربي مدفوعة بشبكات التواصل الاجتماعي حديثة الظهور آنذاك، طرح تيموثي وو السؤال الذي يشغل الآن منتقدي البيتكوين والمتسائلين عن سلوكها ومآلاتها: هل ستستطيع هذه التقنيات تخليصنا من نظام الأشياء الراسخة، أم أن هذا النظام القديم سيخضعها ويضمها إلى آلياته الأخرى الكثيرة. وأغلب الظن أن هذا السؤال ما زال يملك راهنية حاسمة اليوم. خصوصًا وأن بيتكوين ومثيلاتها ما زالت في منتصف مسارها. ويكفي أن تترسخ ويقسو عودها حتى يصبح إغراء حلولها محل الأنظمة التي تشكو منها وطرد هذه الأخيرة على خلفية المشهد إغراء لا يقاوم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ستيفان توماس: مليونير قد يخسر ثروته الرقميّة بسبب نسيان "كلمة سر"

ما هي عملة البيتكوين؟