02-يناير-2019

جزء من لوحة لـ محمد شبر/ العراق

لاحظ رومان وهو يدخل الغرفة الصغيرة المُخصصة له بفندق ريلا أنها تكفي للغرض، بعد أن وصل في وقت متأخر من الليل إلى مدينة صوفيا، ليجد دليله السياحي في انتظاره عند أول شارع يوري فينيلين، وسط المدينة النابضة بالحياة والعابقة بذلك الجو الفريد من الجمال الأوروبي والمتنوع عرقيًا.

إنه قادم في مهمّة استثنائية، فهو لا يعد سائحًا ولم يأت إلى بلغاريا لاكتشاف معالمها السياحية وزيارة المتحف الأثري، أو رؤية كنيسة القدّيسة صوفيا الأكثر شهرة بالمدينة، لكنه عازف رحّال ومصوّر فوتوغرافي قادم من بلده فرنسا لجمع البيانوهات الأوروبية، هوايته التي استمرت لسنين في العثور على المنازل والقلاع المهجورة حيث ترك البيانو القديم.

كان قد وضبّ أغراضه القليلة وحشرها في خزانة بالغرفة، ثم اتصل هاتفيًا بميشال ليحدّد معه تفاصيل اللقاء في صباح الغد، إنه الشخص الوحيد الذي يتوقع أن تنطلق معه رحلته القصيرة هنا للوصول إلى المكان المنشود، بعد أن تواصل معه ليومين أو أكثر قبل مجيئه، فقد حدّثه عدة مرات عن منازل مهجورة تركها أهلها عقب الحرب العالمية الثانية، وبعد تحرٍّ وتقصٍّ مُكثف حدّد له مكانًا وُجد به بيانو قديمًا.

كان المكان بعيدًا عن المدينة بمسافة ساعة، قضاها رومان شاردًا في تلك الصور التي التقطها بكاميرا يحملها دائمًا في حقيبة كتف سوداء، بينما كان ميشال يرشد سائق الأجرة إلى وُجهتهما، حيث يقبع منزل مهجور لعائلة مفقودة ابّان الحرب.

قال ميشال: هذا هو المكان، لك أن تتوقف.

رد السائق بلهجة ودّ: حذاري سيدي، هذا المكان لا يخلو من بعض المتشردين وأفراد العصابات، يجب أن تتوخّى الحذر أنت ورفيقك.

بينما كان رومان يبتسم متأملا المنزل المهجور وهو ينزل مباشرة من السيارة، وعيناه تشردان في تفاصيل المكان كأنه يستمع الى نقرات البيانو المنبعثة من النوافذ المتعدّدة والمُطلة على بقايا أثر لكومة أثاث رثّ بين الأشجار الشاهدة على قسوة الزمن. إنها تتعلق بفكرة العودة لأناس تضمّهم حقبة ما زلت تحتفظ بأنفاسهم وأحاديثهم بين الاحجار المتهاوية من أحد الجدران حتى بدا كأنه عرضة للانهيار في أية لحظة.

تعقّبه ميشال ببطء بعد أن انطلق سائق الاجرة موّدعا، واشتبكت خطواته ببعض الحجر المستلقي في ردهة المنزل في حين كان رومان قد بلغ الباب الرئيسي ودفعه بحذر لتستقر قدميه على اول عتبة تبدو لأول وهلة مُزخرفة مع بقايا مرمر محطم. انه لا يريد الا الظفر بما جاء من اجله وهو يمرّ في القاعة الرئيسية كأنه يعلم جيدا انه ما من أحد يرتاد هذا المكان ليسبقه اليه.

استغرق الامر لحظات كأنها ساعة زمن حتى بلغ مبتغاه. أخيرًا وجده. ها هو مُكوّم في ركن قصيّ، انه بيانو قديم بنيّ اللون اطرافه متآكلة بعض الشيء. انحنى رومان بحذر لئلا يمسّه وغشّت عينيه سعادة طاغية بينما رفيقه يتأمله عن قرب وهو يستمرّ في هدوئه قبالة هذه الآلة المطموسة في عتمة الزمن ما عدا نور الشمس الشاحب الذي يتخلّل فجوات الجدران الآيلة للسقوط، لتظهر لوحة المفاتيح الباهت لونها حتى بدأ يضمّحل منها ذاك اللون الأسود، ليأخذ على عاتقه انفصاله عن معزوفة الحياة، فلا يبق غير بياض مُشتت ومُنحدر من أصابع ظلت معلّقة في الهواء لا تنسل إلى قدرها إنما مُعتقلة في زمن مهجور يشي بدفقة باردة من الكآبة والحزن.

 

  • ملاحظة: فكرة هذه القصة مستوحاة من حياة شاب فرنسي كرّس حياته للبحث عن الآلات الموسيقية المهجورة.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

جناح لانزياحات النّـطفة

خيول تركض في الهواء