27-مارس-2017

جمال ككان/ الجزائر

صديقي الأستاذ عبد الرزاق بوكبّة، كيف حالك يا رجل؟ وكيف حال الإذاعة؟ بقي لي اعتراف، منذ استضفتَني على المباشر، أودّ أن أقوله: كانت تجربةً رائعةً، منْذُها أصبحتُ أكتب كأنّني أتكلّم، وأتكلّم كأنّني أكتب. لم أرتبك فأنت تعرفني عفريتًا في المواجهة، لكنني نسيتُ لساني وهو يفيض، وتذكّرت عقلي. هل رأيتني وأنا أسافر في الأثير إلى مستمعين محتملين، وأستحضر أشباههم في حياتي؟

 

سعيد الشرطي

كم يحبّ الشّاب حسني! كم يغنّيه! كلّمني مرةً: يا الولهي... بلد ينجب أميرًا للعاطفة، وأميرًا للموت، بلد يجب أن يخضع للشرطة، حتى تستمر أغانيه في الإذاعة.

 

الزبير الخوانجي

كم يحبّ المحيسني! كم يُرتّله! كلّمني مرّةً: يا الولهي... بلد يسمع حسني، ولا يسمع المحيسني، بلد يجب أن يخضع للأئمّة، حتى يستمر قرآنُه في الإذاعة.

 

فهيم الطالب

كلّمني مرّةً: سنتان في الجامعة، ولم أفهم شيئًا، ندرس ابن تيمية وماركس في يوم واحد، وأستاذ المناهج غائب! التفكير بلا منهج إمّا إلى انحلال، وإمّا إلى تطرّف، تمامًا مثلما يتحدّث الإنسان في الإذاعة، يمكن أن يفيض ساعةً، دون أن يروي عشبةً في رأسك.

 

جميلة الحلاقة

قالت لي: الزهو كلّ الزهو مع الرأس الذي أمامي، أنسى كل الجسد، ولا يعنيني إلا الرأس. أدخل في باله كيف يريد أن تكون التسريحة، وأشرع في التسريح، تمامًا مثل الذي يتكلم في الإذاعة، شغله مع البال.

 

عبد الرزاق بوكبّة

لم تكن محتملًا في رأسي لحظتها، كنتَ المنشّطَ أراك وتراني، لكن هل أراعيك مثل الآخرين؟ لا، فأنت صانع السّؤال وأنا صانع الإجابة، إذ تستطيع أن تخنق في سؤالك صوت سعيد الشرطي، أو الزبير الخوانجي، أو فهيم الطالب، أو جميلة الحلاقة، وترفع صوت أحدهم، (الذي يطرح السؤال هو الذي يصنع المعنى)، وكلهم جيراني، أعيشهم ويعيشونني، وأيّ خنق لأصواتهم في إجاباتي يكلّفني كثيرًا.

 

تكلفة سعيد الشّرطي

يكتب تقريرَه بالأسود.
مرّةً نفَحَتْ لي أن أجلس مع الحشّاشين، إذ قلت أشوف اللغة حين تدوخ كيف تصبح؟ لأوّل مرّة أحشّش، ولأوّل مرّة أدرك صبح اللغة الدائخة: كأنك تكتب لقارئ لم يولد.

شُفْتُ صحنًا يشبه البيضة، يحطّ من الأبعاد، تنقسم البيضة نصفين كجناحي كتكوت/ تعمّ المكانَ أضواءٌ بـألوان خارج الطيف/ ترسم شاشةً كبيرةً في الهواء، فرأيت مظاهرة حاشدة. وجوهًا من كلّ الأجناس وأصواتًا من كل الأعمار: حاكموا الولهي بن الجازية... حاكموا الولهي بن الجازية.
المحكمة: آلة يسيّرها برنامج يكشف الكذب والنوايا.
الجمهور: نقاط حمراء في لوح كبير، كلّ نقطة بمهتمّ في بيته.
التهمة: الكتابة مكانَ الآخرين. 
العقوبة: يعدم بحذف كل مادة تتعلّق به في الأجهزة. 
خطفني سعيد الشرطي من يدي، إلى حيث لم أكن أعقل:
المحكمة: قاض يتكلّم كثيرًا، ومساعد يكتب كثيرًا، ووكيل لا يعرف الشفقة. 
الجمهور: فضوليون وفضوليات لا يدخلون بيوتهم، وفيهم فهيم الطالب، الزبير الخوانجي وجميلة الحلاقة.
التهمة: تعاطي المخدّرات في مكان عمومي. 
العقاب: عندما استضفتني في المباشر، كان قد مضى شهر على خروجي من السجن.

 

تكلفة الزبير الخوانجي

يكتب تقريره بالأحمر.
مرّةً نفَحَتْ لي أن أصلّي مع المصلّين، إذ قلت أشوف اللّغة حين يسكنها اليقين كيف تصبح. لأوّل مرّة أعود إلى الصّلاة منذ مات أبي، ولأوّل مرّة أدرك صبح اللّغة المؤمنة: تخيّلتُ جبلًا من الكلمات، كلّ كلمة منها تشبه حبّة القمح، فيها السّليمة وفيها ذات السّوس، تختار الأولى إذا أردت الجنة، وتختار الثانية إذا أردت النار. 

أثناء عودتي إلى البيت: حطّ يدَه على كتفي الزبير الخوانجي/ سرّح بسمةً من بين شاربه المقصوص ولحيته المعفاة، وأمطرني بالكلمات: الآن تُلغى كل التقارير الحمراء/ تاب الله عليك، فعدت إلى الحياة وقد كنت على شفا حفرة من الموت، لكن إذا تبتَ فعلًا، فدونك الجبل، ومتْ في سبيل الله. غداً سأجلب لك مسدّسًا، وأنت تعرف رأس سعيد الشرطي.

النهاية: عندما استضفتني في المباشر، كان قد مضى أسبوع على هروبي إلى الجزائر العاصمة.

 

تكلفة جميلة الحلاقة

أن أعود إلى العادة السّرية.
أن تخنق صوتَ امرأة تمنحك جسدَها، هذا مصيرك، وأنا كرهت العادة السّرية يا عبد الرزاق. قالت لي عندما عرفتها أول مرة: قد تجد المرأة لذّة وأنت ترفسها برجلك، لكن لن تغفر لك رفسها بالكلمات.
كنت عابرًا على الحظّ قرب حانوتها، أغرق في كتاب النفزاوي الذي أعاره لي فهيم الطالب، إذ من عادتي ألا أصبر على الكتب والجرائد حتى أصل إلى البيت، فسمعتُ صوتًا هو النّدى على عشب الصّباح: "سمعت أنّ من يقرأ كثيرًا يصلع سريعًا، وحسين الحلاّق ليس مستعدًا لأن يخسر زبونًا".

تقدّس ثراك يا سيدي النفزاوي، كم نفعتني مع تلك المخلوقة! وكم نفعتها بي! كنا نستقبل النهار بتمرين، ونودّعه بتمرين، ولولا دخولي السجن لكنّا أتينا على الرّوض كلّه.

 

تكلفة فهيم الطالب

يحرمني من إعارة الكتب.
لا يدخل كتاب إلى الجزائر إلا اشتراه، وأنا بماذا أشتري؟ ولا بدّ أن أقرأ، أنا لا بدّ أن أقرأ يا عبد الرزاق.
سأحكي لك هذه: وأنا في السّجن، أحسست باختناق الموت، مُنع عني الكتاب، ومُنعت عني جميلة، فقلت للفتى الحارس: يرحم والديك... هاك هذا الرقم، اتصل بصديقي وقل له: صديقك الولهي يطلب منك كتبًا وإلا اختنق.
فامتنع في المرة الأولى 
امتنع في الثانية
امتنع في الثالثة
........
........
........
........
........
........
و في المرة العاشرة قال لي: أنت بحاجة إلى الكتاب، وأنا بحاجة إليك، ما رأيك في هذه المقايضة؟
فامتنعت في المرة الأولى
امتنعت في الثانية
........
........
........
........
........
........
امتنعت في التاسعة
وفي المرة العاشرة وصلني الكتاب الأوّل.
العنوان: أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض
المؤلف: عبد الرزاق بوكبّة
عندما استضفتني في المباشر، كان قد مضى يومان على التحاقي بالعيادة النفسية: 
- كم مارستَ الجنس مع حارس السجن؟
- مارستُ خمسين كتابًا يا دكتور.

 

صديقي بوكبّة
هل من كتاب جديد؟

اقرأ/ي أيضًا:

لَمْ يَعُدْ للابتسامات صِيت

للغائب سبعون ألف عذر