29-أغسطس-2021

مقاتلون من طالبان في كابول (Getty)

سيمر وقت طويل نسبيًا قبل أن تستقر معادلات الربح والخسارة دوليًا وإقليميًا في ما يتعلق بأفغانستان. هناك رابح أكيد حتى اللحظة، هو حركة طالبان، التي يمكن القول إنها باتت الطرف الوحيد المرشح للهيمنة على المشهد الأفغاني. يعينها على تصدرها هذا المشهد رغبة دول الجوار في تجنب الغوص في الرمال المتحركة الأفغانية بعد تجربتين فاشلتين للاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.

يكمن الفشل الأمريكي في أنه لم تنجح قوات أقوى دولة في العالم، وإدارييها وأموالها، في جعل أفغانستان مزدهرة ومستقرة!

أكيد حتى اللحظة، هو حركة طالبان، التي يمكن القول إنها باتت الطرف الوحيد المرشح للهيمنة على المشهد الأفغاني

إنما ورغم وضوح هذا الربح، يجدر بنا ألا نظنه ربحًا سهلًا. فالفشل الأمريكي في فرض منطق واشنطن على أفغانستان، لا يعني على الإطلاق أن انسحاب القوات الأجنبية سيجعل من أفغانستان مزدهرة ومستقرة. الفشل الأمريكي يقع هنا بالتحديد. لم تنجح قوات أقوى دولة في العالم، وإدارييها وأموالها، في جعل أفغانستان مزدهرة ومستقرة. ولذلك تنسحب من هذه البلاد تاركة الأفغان يقررون مستقبلهم بأيديهم. وإذ يعي قادة طالبان كمية الصعوبات التي تواجههم في إدارة البلاد على نحو يؤمن استقرارها في المستقبل، فإنهم لا ينفكون يرسلون إشارات متواصلة للولايات المتحدة بأنهم ليسوا أعداء لها. هذا الأمر شهدنا نسخته في فيتنام من قبل. فرغم أن المعارك آنذاك أسفرت عن انتصار الفيتكونغ، إلا أن السنوات اللاحقة لهذا الانتصار شهدت نوعًا من الانضباط الفيتنامي تحت مضلة المصالح الأمريكية ورعايتها.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة اللجوء الأفغانية.. مصير غامض واستقطاب سياسي منتظر

ما تقدم يمكن رده إلى دروس التاريخ. لكن ما سيأتي قد لا يكون متناسبًا مع هذه الدروس.

لا شك أن الإدارة الأمريكية المقررة إدارة الظهر لمشكلات تلك المنطقة تواجه نوعًا من الارتباك جراء تداعيات الانسحاب. لكن هذا الارتباك، في ظني، يصيب ما هو أوروبي في الإدارة الأمريكية وليس ما هو أمريكي. وهذا أمر ينبغي التدقيق فيه مليا قبل إطلاق الأحكام السريعة الخاصة بالربح والخسارة.

أزعم أن الخاسر الأكبر في أفغانستان، هو القارة الأوروبية. تلك القارة التي اعتمدت طوال العقود الماضية، على القبضة الأمريكية لتحقيق استمرارية ما للأفكار والقيم التي انبنت عليها القارة العجوز. وحدث، ولمرات كثيرة، أن ترددت الولايات المتحدة في الاستجابة لتنفيذ الأجندة الأوروبية، وقد تبدى هذا التردد بوضوح خلال أزمة يوغوسلافيا السابقة في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. وشهدنا مثل هذا التردد الأمريكي مع دخول الأزمة السورية، منذ السنوات الأولى من العقد السابق، أطوارها الدموية. حيث لم يكن في وسع المعارضين لنظام بشار الأسد التيقن من طبيعة الدعم الذي قد تؤمنه الإدارة الأمريكية. التي كانت قطعًا غير معجبة بنظام بشار الأسد، لكنها لم تكن مستعدة للإعجاب بمعارضته. في ليبيا، كان الأمر أيضًا مشابهًا. فبعد تدخل حاسم من قبل إدارة باراك أوباما ساعد في إسقاط نظام معمر القذافي، سرعان ما أدارت واشنطن ظهرها لكل ما يجري في تلك البلاد، تاركة القوى الإقليمية تقرر بالدم والفوضى، ما تراه مناسبًا لمصالحها في تلك البلاد.

ما زال الفكر الاستعماري هو الذي يحكم أوروبا وما زالت واشنطن تراعي هذا الفكر لأنها لا تملك حتى اللحظة

ما تقدم من إشارات لا يخرج من إطار السياسة المباشرة. لكن المتمعن في ما يجري في أمريكا قد يفاجأ بالسرعة التي تغادر فيها واشنطن مسرح هذه السياسة التي ورثت أصولها من القارة الأوروبية. ما زال الفكر الاستعماري هو الذي يحكم أوروبا وما زالت واشنطن تراعي هذا الفكر لأنها لا تملك حتى اللحظة بديلًا فكريًا يحل محله. لكن واشنطن القوية والقادرة، تنحو كل مرة إلى الانسحاب من تبعات هذه الأفكار وكلفتها التي تقع معظم الوقت على عاتقها. وهذا يحصل منذ عقود وفق السيناريو نفسه والخطاب إياه: لا مصلحة لنا في فييتنام، ولا سبب يدعونا لإنفاق أموال دافعي الضرائب الأمريكيين من أجل دمقرطة فييتنام وضمان استقرارها وتقدمها. وهذا يمكن جره طردًا على سوريا والعراق ومصر وليبيا وأفغانستان ويوغوسلافيا وأوكرانيا، إلى دول أخرى كثيرة. لكن الانسحاب الأمريكي الذي يحصل لا يؤدي إلى هزيمة واشنطن وتقوقعها، بل يؤدي غالبًا إلى خروج الدول التي انسحب منها الأمريكيون من قائمة الدول التي تملك مستقبلًا، ما لم تعمد هذه الدول إلى الخضوع تمامًا للشروط الأمريكية بملء إرادتها. يستوي في هذا الميزان الصين وفييتنام وتايوان، وقد تجلس أفغانستان وإيران وروسيا على كفته في المستقبل القريب. والحال، تنسحب أمريكا من أفغانستان لكي تتم نصرها وتوفيه شروطه الكاملة، لكن المهزوم دائمًا والذي يصبح أمنه ومستقبله مهددًا هو القارة الأوروبية، التي تنظر بعين الريبة والخوف والقلق إلى كل انسحاب أمريكي من أي منطقة من العالم، بوصفه خسارة صافية لها. وإذا ما حدث أن نجحت دولة من هذه الدول في إنشاء تعاون مستقر مع واشنطن، كحال تركيا مثلًا، تتحول القارة الأوروبية برمتها إلى خصم معلن لهذه الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: باختصار.. ما هو "تنظيم الدولة-ولاية خراسان"؟

القرن الأمريكي بدأ على الأرجح منذ عدة عقود فقط. قبل ذلك كانت واشنطن عبارة عن شريك أول لأوروبا التي ما زالت تحسب أن أفكارها وقيمها تدير العالم. اليوم ثمة تحولات جذرية في النظام العالمي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، ولن يطول بنا الوقت لنكتشف أن هذه التحولات صارت قانونًا راسخًا. وأن أول المتضررين منها هم شركاء أمريكا في القارة العجوز.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما مستقبل اقتصاد أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان؟

المشاورات مستمرة بشأن طبيعة نظام الحكم الجديد في أفغانستان