09-سبتمبر-2022
The Pursuit of Happyness

من فيلم The Pursuit of Happyness

تزخر سينما اليوم بأفلام تتحدث عن أبطال خارقين، عن نساء لا يشخن بسبب خلل جيني، عن مجانين مقتدرين نجحوا في الحصول على عدد من الصواريخ النووية ويريدون تدمير العالم انسجامًا مع معتقداتهم. والأمثلة لا تحصى، وكلها أمثلة تفيد أن القصص التي ترعاها سينما اليوم، في غالبها الأعم، تتحدث عن صنف آخر من الكائنات لا يمت للبشر بصلة.

لا أحد يستطيع أن يتطلب من الفن السينمائي أن يكون أكثر قربًا من العالم الذي نعيش فيه. هذا فن تحكمه الفرجة، والإثارة، ويحكمه أيضًا التقدم التقني في وسائل الإبهار

في هذه الأفلام يقبع الناس العاديون في منازلهم أو مراكز عملهم، وبينهم قادة جيوش ورؤساء دول، لا يملكون من وسائل لوقف الكارثة المقبلة غير التفرج على الأبطال الخارقين وهم يحاولون إنقاذ العالم من مجانينه. والحال، لا تختلف حال بائع التلفزيونات في أحد مخازن لوس أنجلس الكبرى عن رئيسة الولايات المتحدة وقادة جيشها في القدرة على إحداث أثر لتغيير مصير العالم، كما يصور لنا فيلم Interception. وهم كحالنا نحن المشاهدين يقبعون في انتظار أن تنجز الكابتن J J مهمتها في إنقاذ العالم من انفجار الصواريخ النووية في مدن الولايات المتحدة. على نحو ما، يحاول هذا الفيلم، وغيره الكثير القول، إن العالم سائر إلى انفجاره ولا يمكن لأي كان إنقاذه، إلا إذا وفرت المصادفات بطلًا قادرًا على اجتراح الخوارق.

لا أحد يستطيع أن يتطلب من الفن السينمائي أن يكون أكثر قربًا من العالم الذي نعيش فيه. هذا فن تحكمه الفرجة، والإثارة، ويحكمه أيضًا التقدم التقني في وسائل الإبهار. وليس ملزمًا بتصوير حيوات الناس كما هي حقًا. ثم من ذا الذي سيهتم لحكاية شخص هامشي؟ إذا لم يكن جميلًا كبزوغ فجر، فلن يكون مصيره مهمًا لأحد. هذا أيضًا مفهوم. وهذا أيضًا أحد أسباب الرغبة العارمة في عالم الإنتاج السينمائي في تصيد الجميلات والجميلين، وعرض وجوههم وأجسامهم على الشاشة. هؤلاء، بسبب جمالهم يستحقون أن نراقب ما يأتونه وما يفعلونه، ويستحقون أن نتمنى لهم السعادة والهناء والغرق في الحب.

لكن المسألة أعقد من هذا التطلب قليلًا. ذلك أن السينما، كغيرها أيضًا من الفنون، باتت تدرك أن الحكايات المؤلمة، والحيوات التي تنقصف تعبًا وقتلًا وحروبًا، والناس الذين يسكنون الشوارع بلا أمل وبلا قدرة على التفكير في انتظار حدث ما يغير من وقائعهم، أكثر من أن تحصى. يكفي أن تقف في شارع مزدحم في مدينة كبرى، وأن تطلب من أي عابر أو عابرة أن يخبرك قصة حياته التي حملته إلى هذا الشارع في هذه اللحظة بالذات، لتكتشف أن هذه الحياة حين يقصها عليك هذا العابر، تبدو أصعب من أن تعاش. هذا عالم باتت متخمًا بحكايات المتعبين والضالين والمتألمين، وهذا عالم لم تعد ثمة مفاجآت فيه تستطيع أن تغير في مصائر هؤلاء المتعبين وتحول أحوالهم من حال إلى حال.

في الفيلم الذي أنتجه ويل سميث ولعب دور بطولته والذي حمل عنوان "البحث عن السعادة" إذا جازت ترجمة العبارة الشهيرة التي يتضمنها الدستور الأمريكي، والتي تجعل ملاحقة السعادة حقًا من حقوق المواطنين الأمريكيين على هذا النحو. في هذا الفيلم ينحدر ويل سميث مع طفله من قاع إلى قاع. ومع وصوله إلى كل قاع تظن، أنت المشاهد، أنه بلغ منتهى البؤس. لكن البؤس لا يكف عن اختراع قيعان جديدة ويدفعه إليها. هكذا لم يكن ثمة مناص أمام مشاهد الفيلم من تأمل إنهاء حياة هذين الضعيفين على نحو من الأنحاء، وبأسرع ما يمكن. ليس ثمة سبب ليعيش أي كان مثل هذه الحياة. وليس الموت أصعب من مقارفة هذا العيش المستحيل. لكن الفيلم ينحو في نهايته إلى إنهاء هذه المعاناة بتحقيق السعادة الدستورية، وحصول ويل سميث على عمل يعيله مع ابنه.

مثل هذه النهايات مفهومة في السينما، ذلك أن الأفلام محكومة بوقت، ويجب أن نختمها على نحو ما، فلو كان الختام موتًا، فيفترض بهذا الموت أن يكون أكبر أحداث الفيلم، أما وأن مراحل الفيلم تبدو كلها أصعب من الموت، فليس ثمة نهاية يمكن أن يشكلها الموت له. هكذا يقبض ويل سميث على السعادة، لأن الفيلم يحتاج إلى خاتمة. لكن ما يقوله حقًا ليس أقل من الملاحظة التالية: حيوات الناس في هذا العالم المكتظ باستحالاته، لم تعد مقدمات للموت. بل هي على الأرجح تقع في مراحل ما بعد الموت. وهذه المدن تزخر حتى الثمالة بقصص موت غير معلنة، ما زال أبطالها يحيون حياة يصعب وصفها، لكنها تشبه حياة ما بعد الموت. وعليه، ليس ثمة ما يمكننا أن نعلنه أو ندعيه لمواجهة هذه المعضلة. علينا فقط انتظار البطل الخارق ليجعل هذه الحياة تستحق أن تنتهي بالموت. الموت الذي من شأنه أن ينشئ مكانًا للميت في الذاكرة، فيما يبدو العيش الراهن يحضنا جميعًا على نسيان أنفسنا وماضينا كما لو أننا لم نكن.