07-أغسطس-2022
‘Mediterranean Fever’

من الفيلم

لا شك أنني منحاز لكل ما هو فلسطيني، ليس انحيازًا متعصبًا أو أعمى، لكنه انحيازه منبعه العقل الباطن، يجعل ذائقتك تستمتع بما يحمل نفس الهمّ والذاكرة، فلنسمها انحرافًا معياريًا في ذائقتي الشخصية يعطي نقاطًا إضافية لكل ما هو فلسطيني.

دعوني أبدأ من النهاية، بعد الخروج من فيلم "حمى البحر المتوسط" (يبدأ عرضه تجاريًا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2022) ستصاب بغصّة، دوار وشعور بانقباض شديد في صدرك، لربما هي عدوى أساسها اسم الفيلم. حيث تحتاج لعدة ساعات أو أيام لتخرج من هذا الشعور، الشعور بأنّ أبطال الفيلم خرجوا من الشاشة واستوطنوا في صدرك، هم وهمومهم.

يمكن أن نعتبر مها الحاج في فيلمها "حمى البحر المتوسط" كجبل جليدي، يلوح لك طرفه المدبب الصغير المشتعل بالكوميديا السوداء، وعندما تقترب منه سفينتك يقلبك رأسًا على عقب بأبعاده الإنسانية والفلسطينية

نعود إلى مشهد البداية السريالي نوعًا ما، ليتلقي مع مشهد النهاية الفرويدياني نوعًا ما، لتلتقي المسخرة بينهما كأن الفيلم يرفض المشاركة بلعبة الوعي في هذا العالم.

يقول سليم البيك أن الفيلم هو تمهيد لسينما مها الحاج، ربّما وجب القول إن هذا الفيلم هو حجر الأساس لهذه السينما، بعد فيلم أمور شخصية الذي وصفته في مقال سابق كـ"وجع الوجود البارد". يمكننا القول إنّ المخرجة نجحت في امتحان الفيلم الثاني بكل أريحية، إذا حاولنا وصف هذه السينما وتصويرها، يمكن أن نعتبرها كجبل جليدي، يلوح لك طرفه المدبب الصغير المشتعل بالكوميديا السوداء، وعندما تقترب منه سفينتك يقلبك رأسًا على عقب بأبعاده الإنسانية والفلسطينية.

الفيلم يتحدث عن وليد "ربّة منزل" يحاول كتابة رواية ومصاب باكتئاب حاد مزمن، ينتقل للسكن مقابله جلال "ربّة منزل" معظم الوقت، يعمل في مجال ترميمات البناء وله ضلع في عالم الإجرام. وليد موظف بنك سابق هادئ جدًا مطيع ويحلم بالموت، جلال فوضوي جدًا يحب الموسيقى العالية، له ذائقة أدبية لافتة نسبة لمشروع مجرم مثله لا علاقة له بـ"خراريف فلسطين" فعلى الرغم من ذلك هو مدرك أن العرب كانوا شعبًا جامدًا جدًا يحصل على علامة "أخوات شر..." وفق مستويات تدريجه.

هذا التضاد ظاهريًا يتطور لاحقًا، يخاتل ويخلق لنا عوالمَ كاملة من الخلفيات النفسية تجعلنا بعد كل مشهد نراجع صورتنا النمطية التي كونّاها للشخصيتين، نهدمها ونعيد بناءها من جديد. يدعم ذلك آداء مذهل لعامر حليحل وأشرف فرح، مشبع بعوالم مها الحاج وخيالها الواسع وكوميديتها السوداوية التي تحمل كمية سمّ مضاعفة للمشاهد الفلسطيني، تجبرك على التأرجح بين وليد وجلال بين الجبن في الحياة والشجاعة في الموت، أو العكس لا أعرف فذلك منوط بعد أي مشهد يتم سؤالي.

هذه المراوغة تستمر حتى تدهسك المشاهد الأخيرة فتلقي قنبلتها العنقودية في طنجرة رأسك وتقفل الباب، فتتفرق أشلاؤك في جهات الكون الستّ، أو كعاصفة من المشاعر تلتقطك كقطعة غبار في طريقها لاكتساح الكوكب.

تتأرجح مشاعرك بين غصّة وبكاء تتخلله نوبات ضحك مباغتة لا تستطيع بأي حال من الأحوال السيطرة على هذا الشعور بالعجز وقلّة الحيلة بعد انتهاء الفيلم. بعد كل هذا الضرب "الناعم" كأنك كنت في تحقيق للشاباك تم التحقيق معك بمعيّة برتقالة في كيس، تحطم داخلك دون أن تترك أثرًا على جسدك.

بعد مشاهدة فيلم "حمى البحر المتوسط" تشعر أنك كنت في تحقيق للشاباك، تم التحقيق معك بمعيّة برتقالة في كيس، تحطم داخلك دون أن تترك أثرًا على جسدك

هذا الفيلم إنساني بامتياز بنكهة غسان كنفاني ومحمود درويش وطه محمد علي وسميح القاسم وإدوارد سعيد، تجد فلسطين في تفاصيله، في الشاطئ وعلى الحائط وفي حصة الجغرافيا، ولكن دون فذلكة ودون التلويح بها كرداء أحمر، بل كجزء من كينونتنا وقصتنا التي صارت كمستنقع من الأرض الطينية يلطخ كل ما نلمس دون أن نقصد ذلك.  

في نظرة أخرى وأخيرة لهذا الفيلم أقتبس جملة محمود درويش: "الأول ينظر إلى صورته في الماء ويقول: لا أنا إلا أنا، والثاني ينظر إلى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد. وفي الليل يضيق الفارق ويتسع التأويل".