21-أبريل-2019

إحدى الخرائط التي رسمت عام 1565، بناء على رحلة كريستوف كولومبس

في مختلف أنحاء العالم لم تتوقف عن الظهور تعبيرات تشير إلى خصوصية ثقافية لأمة ما، أو لقومية ما مثل: الثقافة الألمانية، الثقافة الفرنسية، الثقافة العربية، إلخ... وذلك في مسعى، مقصود أو غير مقصود، لبناء أو إعادة بناء جدران كتيمة بين ثقافات العالم، ولإظهار بعد تمييزي بين ثقافة وأخرى، وبالتالي بين أمة وأخرى. برز هذا (الصراع) مجددًا وجليًا في حريق كاتدرائية نوتردام في فرنسا، فاعتبر الفرنسيون أن هذا الحريق طال الثقافة الفرنسية، فيما اعتبر الأوروبيون أنه طال الثقافة الأورويبة، وقد اعتبره آخرون ممن أبدوا تعاطفهم مع الحدث المأساوي أنه تراث إنساني لا يخص فرنسا وحدها ولا أوروبا وحدها بل الإنسانية. وسنغفل هنا عن أصحاب سياسات الهوية الذين اعتبروه تراثًا مسيحيًا على اعتبار أن هذه المقالة مشغولة بالقيم الإيجابية في العلاقة بين الثقافات.

لا ننظر إلى توني موريسون على أنها سوداء أو بيضاء على المستوى الثقافي، بل ننظر إلى ما تركته من أثر على الثقافة الأمريكية وثقافات العالم

في العصر الحديث تم اكتشاف قصص "ألف ليلة وليلة" من قبل كتاب على مدى العالم، وتم تحليل هذه القصص بنوع من الإعجاب والدهشة لدى غالبية هؤلاء الكتّاب كبورخيس وتودوروف وسواهما... وقد بنيت وجهات نظر، ونظريات أحيانًا، في الكتابة والنقد انطلاقًا منها. وقد ظهرت نقاشات، كانت في مرات كثيرة حادة، حول الأصل (القومي) لـ"الف ليلة وليلة" فثمة من اعتبرها فارسية، وثمة من أصرّ على أصلها العربي وهكذا... لكن سؤال الأصل (القومي) سرعان ما خفت وبهت لصالح سؤال الأثر الإنساني الذي أصاب باحثي الأصل بنوع من الحياء حيث أدركوا أن هذه القصص هي ملكية عامة للجنس البشري وأن البحث في: "لمن تعود أصلًا؟" غير ذي جدوى أمام ذلك التأثير الذي خلّفته في أرجاء العالم. وتعتبر هذه القصص اليوم عالميًا من أمهات الكتب المؤثرة.

اقرأ/ي أيضًا: ليست النوتردام وحدها التي احترقت

انتقال ثقافة من مكان لآخر عبر التاريخ، إن حدث ذلك عبر انتقال مجموعات من مكان لآخر ومن ثقافة لأخرى نتيجة ظروف متنوعة مثل الغزوات والحروب والبيئة، أو عبر تبشير ديني، أو حتى عبر استعمار، أو عبر الترجمة... لم ينتج عنه مجرد تعرّف على ثقافة "الآخر"، بل نتج عنه نوع من التحول والدمج الثقافيين في الثقافة القومية أو الوطنية الأمر الذي فكّك الأصل أو الجذر القومي للثقافات. نحن الآن لا ننظر إلى توني موريسون على سبيل المثال أنها سوداء أو بيضاء على المستوى الثقافي،  بل ننظر فيما تركته من أثر على الثقافة الأمريكية وثقافات العالم. قد يتم الأخذ بعين الاعتبار الأصل القومي لثقافة معينة في معرض دراسات أخرى من نوع دراسات التابع والدراسات الكولونيالية إنما ليس لثبيت الأصل بل لتفكيكه.

لقد قال سارتر عن رواية "الغريب" لكامو إنه كافكا وقد كتبه همنغواي! وأيضًا لا يمكن نسيان دهشة بلانشو مع الفرنسيين عن الأثر الذي تركه كتّاب فرنسيون، خاصة موباسان، في كتّاب ظهروا فيما بعد وليسوا واقعيين كموباسان وذلك في مختلف أرجاء العالم. يتساءل بلانشو بدهشة: كيف يمكن أن يكون فلويبر معلمًا لكافكا؟ بلانشو يعتبره كذلك.

لو أزلنا، افتراضيًا، ت. س. إليوت من الحداثة العربية (منتصف القرن العشرين) فإنه لن يبقى الكثير منها، وهكذا فالحداثة العربية (بصرف النظر عن ظروف نشأتها ومآلاتها وأثرها عربيًا) هي أمريكية، أوروبية، عربية، وأشياء أخرى دون أن يكون سؤال الأصل ذي معنى وفائدة.

الحديث عن تفوق ثقافي، ونقاء ثقافي هو حديث تمييزي متخيّل تنسفه الواقعية والتاريخ.

قال سارتر عن رواية "الغريب" لكامو إنه كافكا وقد كتبه همنغواي!

عندما قال الفيلسوف الألماني هابرماس، في معرض دفاعه عن اللاجئين إلى ألمانيا، إنه يتوقع أن يندمج اللاجئون في "ثقافتنا الألمانية"، اضطر أن يجيب عن سؤال: ما هي الثقافة الألمانية؟ قائلًا إنه يقصد القوانين والحياة اليومية. 

"نا" الدالة على الملكية بما يتعلق بالثقافة هي "نا" سياسية بالدرجة الأولى. يستخدمها السياسيون لأغراض لا تتعلق بالثقافة، بل بعمليات ذات أغراض أخرى متنوعة قد تكون في بعض المرات استعمارية! ونحن نسمع منذ فترة طويلة عبارات من مثل "القيم الأمريكية، والقيم الأوروبية" وغير ذلك من تعابير لم يطلقها سوى السياسيين، وكذلك المثقفون المتحالفون معهم أو المؤيدون لهم. 

"نا" ضمير يفترض فيه أن يدل على ملكية الجنس البشري للثقافات والأفكار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مؤتمر الربيع العربي ونزع المركزية عن الدراسات الأمريكية

اعتذاريات ناشيونال جيوغرافيك.. اعتراف متأخر بعنصرية تاريخية