17-أبريل-2019

مشهد من حريق كاتدرائية نوتدرام في باريس (تويتر)

في يوم حزين في تاريخ الإنسان قبل ألف وخمسمئة سنة من الآن تمكنت قبائل تعرف باسم القبائل الجرمانية من اقتحام الإمبراطورية الرومانية، وتدمير ما تبقى منها معلنة نهاية معقل الحضارة الوحيد في أوروبا آنذاك، تاركة الناس يعودون لغرائزهم القديمة في سبيل الدفاع عن أنفسهم وعوائلهم وأملاكهم.

ما يميز كاثدرائيات العصور الوسطى في تاريخ الفن، يأتي من تفردها بطراز خاص بها تكون من تفاعل فخامة العمران الروماني مع رقة الشرق والروح الجرمانية

لم يحتضن أحد هذا الخليط العجيب من القبائل الألمانية البدوية والرومانيين المحطمين من انهيار حضارتهم؛ سوى الدين المسيحي الذي وحدهم تحت رايته. وبعد أن سقاها الناس بالدماء والعرق، نمت هذه البذرة وأثمرت حضارة خلصت رعاياها من حياة مهلكة، فيما لم يجد هؤلاء المسيحيون طريقة أفضل من بناء الكاثدرائيات الفخمة للتعبير عن امتنانهم للمخلص، وفق معتقدهم، الذي أنعم عليهم بالحضارة كما سينعم عليهم بالجنة كما كانوا يأملون.

ومن هنا تأتي أهمية هذه المعابد المذهلة، فهي فضلًا عن جمالها تمثل تعبيرًا صادقًا لإيمان ملايين الناس وتفاؤلهم بالمستقبل بعد قرون من التشاؤم.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا نفعل بالمسيحيين؟

وإن أكثر ما يميز كاتدرائيات العصور الوسطى عن بقية العمائر التي شيدها الإنسان أنها بنيت بواسطة الشعب وبأموال الشعب ومن أجل الشعب، فهي عكس الأهرام والقصور التي بناها العبيد لتخليد ذكرى الملوك، تعاون على بنائها جميع الناس وبأجور زهيدة أو دون أجور في الكثير من الأحيان، فقد اجتمع المهندسون على تصميمها، وتفاخر الفنانون بتزيينها، وتشرف العمال بترتيب أحجارها، وتبرع الملوك والنبلاء ورجال الدين بأموالهم من أجلها. وبعد أن اكتمل بناؤها، لم يحكمها الملوك أو يسكنها رجال الدين، بل كانت مأوى للفقراء وقاعة اجتماعات للناس ومدرسة للأطفال، فضلًا عن كونها معبدًا يلجأ إليه الناس من أهوال الدنيا والآخرة.

أما أهمية هذه الكنائس في تاريخ الفن، فتأتي من تفردها بطراز خاص بها تكون من تفاعل فخامة العمران الروماني مع رقة الشرق والروح الألمانية التي جاءت بها القبائل الجرمانية، فقد تعلم مهندسو هذا الطراز هيبة العمارة الرومانية من بقايا أبنيتهم العظيمة، وتأثروا برقة عمائر الشرق وكثرة زخارفها عندما سمحت لهم الحروب الصليبة باستكشافها، وصهروها مع روحهم العنيدة التي أرادت خلق طراز جديد يعبر عن ذوقهم وإيمانهم، وقد كان هذا الطراز هو الطراز القوطي، والذي سمي على اسم قبيلة القوط أعظم القبائل الجرمانية المهاجرة.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. استهداف أكبر كنيسة مصرية بتفجير إرهابي

وفي يوم حزين آخر في تاريخ الإنسان، احترقت إحدى أعظم وأكبر هذه الكاتدرائيات، أعني كاتدرائية نوتردام العريقة التي تعتبر واحدة من أقدم الكاتدرائيات القوطية في التاريخ، فبها اكتملت ملامح الفن القوطي لأول مرة كما يدعي ويل ديورانت.

ولكن ما احترق في باريس قبل أيام ليس كنيسة عريقة فقط، بل إبداع آلاف المهندسين والعمال والفنانين بروح شكلتها مئات السنين من الحرمان والمعاناة متجسدًا في أحجار رفعها الناس وأمسكها الإيمان، لقد احترق إنجاز لن نرى مثيلا له أبدًا. وأتى احتراق النوترمدام، المخلدة في الأدب الفرنسي، وسط اهتزاز واحتراق اجتماعي تشهده فرنسا، ليس فقط أحد رموزها، فالبلد يغوص في مستنقع من الصراعات الاجتماعية والسياسية ليس أولها الهجرة ولن يكون آخرها "السترات الصفراء".

 

اقرأ/ي أيضًا:

أريد أن أبني كنيسة

مذبحة ماسبيرو.. من يحمي الجيش من بطش الأقباط؟