04-ديسمبر-2016

فرانسوا فيون، رئيس الوزراء الفرنسي السابق (Getty)

بعد هزيمته الساحقة لخصومه في الانتخابات التمهيدية لحزبه الأسبوع الماضي، سوف يحمل فرانسوا فيون لواء الجمهوريين في انتخابات الربيع القادم. فوجئ المتنافسون والمحللون، بل والكثير من الناخبين، بهذه النتيجة. فوجئوا لأن فيون ظل طويلًا متأخرًا في استطلاعات الرأي؛ فوجئوا لأن فيون، رئيس الوزراء الأسبق، دائمًا ما كان يتم اعتباره "رقم 2 الأبدي"؛ فوجئوا لأن فيون قد وعد، إذا ما تم انتخابه، بتجويع وحش دولة الرفاهة حتى الموت، وهي خطوة لم تكن تعتبر استراتيجية رابحة في فرنسا. فيون كاثوليكي. كاثوليكي للغاية. كاثوليكي بشدة، على الأقل بالنسبة إلى اليسار العلماني، حتى أن عنوانًا في صحيفة ليبراسيون صرخ: "النجدة، لقد عاد يسوع!".

عبقرية فيون كانت في إدراكه لكون الكاثوليكية الحية الميتة الفرنسية ليست فقط هوية ثقافية وإنما هوية سياسية كامنة.

كانت تلك مقدمة مقال روبرت زارتسكي، أستاذ التاريخ بجامعة هيوستن، في مجلة فورين بوليسي الأمريكية عقب فوز رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق فرانسوا فيون بالانتخابات التمهيدية ليصبح مرشح اليمين الفرنسي للرئاسة في انتخابات الربيع المقبل.

اقرأ/ي أيضًا: اليمين الفرنسي ينادي فيون من بعيد: فخامة الرئيس

لم يحاول فيون أبدًا إخفاء معتقداته، تابع زارتسكي. ينحدر فيون من فونديه، الإقليم الفرنسي الذي كان موقع المقاومة الطويلة والدموية للقيم العلمانية ولاحقًا، جنود باريس الثوريين. يشتهر إقليم فونديه، الذي يعد موقع ذكرى للكاثوليك الفرنسيين، بدير سان بيير دو سوليم البندكتي، حيث يذهب فيون كل عام. في كتاب حملته الذي كان عنوانه Faire ("أن تفعل")، يستدعي فيون، المعروف بتحفظه، ارتباطه العميق بالتعليم الكاثوليكي، شارحًا كيف شكّل نظرته إلى العالم، ويؤكد: "لقد نشأت وسط هذه التقاليد، وقد احتفظت بتلك العقيدة". رغم ذلك، كما يتضح، سوف تدلي جموعٌ غفيرة الفرنسيون والفرنسيات الذين لم يحتفظوا بعقيدتهم بأصواتهم لصالح سياسي احتفظ بها.

هؤلاء الرجال والنساء هم، حسب التعبير المثير للجدل الذي صاغه منذ ثلاثة أعوام عالما الاجتماع إيمانويل تود وهارفي لو برا، les zombies catholiques "الموتى الأحياء الكاثوليك" لفرنسا. في كتابهما Le mystère français "اللغز الفرنسي"، حاول تود ولو برا شرح لماذا، في بلدٍ لا يداوم فيه على الذهاب للكنيسة سوى 5 أشخاص من بين كل 100، ما زال تأثير الكاثوليكية واضحًا.

من ملايين الأهالي الذين خرجوا إلى الشارع في منتصف الثمانينيات للاحتجاج على محاولة الحكومة الاشتراكية دمج المدارس الخاصة (الكاثوليكية في أغلبها) مع المدارس العامة إلى الملايين الذين خرجوا، بعد 30 عامًا، إلى نفس الشوارع للاحتجاج على محاولة الحكومة الجديدة (التي ليست مختلفة تمامًا) لتقنين زواج المثليين. هذه الجيوش من "الزومبي" الفرنسيين كانوا ليسحقوا أمثال براد بيت، ناهيك عن وزراء الحكومة.

يتعجب "تود "و"لو برا" من بقاء العادات والقيم الكاثوليكية في مناطق وأقاليم اختفت فيها الكاثوليكية كمؤسسة تقريبًا. "المفارقة الأكثر إدهاشًا"، يشيران، "هي صعود الحركات الاجتماعية التي شكلها دين اختفى كمعتقدٍ غيبي". يستنتج تود ولو برا: "يبدو أن الكاثوليكية قد حصلت على نوعٍ ما من حياة ما بعد الموت. لكن حيث إن الأمر متعلق بهذه الحياة الدنيوية، فإننا سوف نعرفها بـ’الكاثوليكية الزومبي’".

يتشارك الزومبي الكاثوليك أعراضًا بعينها: هم لا ينحدرون فقط من الأقاليم التي كانت فيها مقاومة الثورة الفرنسية أكبر ما يمكن، لكنهم استطاعوا أيضًا الاستفادة من المنافع التي نتجت عن ذلك الحدث المزلزل. هؤلاء الفرنسيون الذين تلقوا قدرًا كبيرًا من التعليم ويتمتعون بالجدارة، يحافظون أيضًا على نظامٍ تقليدي للتراتب الاجتماعي فيما يتعلق بتقسيم واجبات العمل والمنزل بين الأزواج والزوجات، وارتباطٍ قوي بالأنشطة المجتمعية والعائلية، وقلقٍ عام من دور الدولة في الشؤون الخاصة وشؤون المجتمع، بما في ذلك "المدارس الخاصة" (المدارس الكاثوليكية الخاصة).

يتمتع فيون بجميع تلك الصفات، يواصل زارتسكي. قادت ليبراليته الاقتصادية، النقاد إلى وصفه بأنه مارجريت ثاتشر فرنسي. لكن عبقرية فيون كانت في إدراكه لكون الكاثوليكية الزومبي الفرنسية ليست فقط هوية ثقافية وإنما هوية سياسية كامنة. بالفعل، خرج الزومبي للتصويت لصالحه بأعدادٍ فاقت توقعات الجميع: في الجولة الثانية من التصويت، ذهب 4.3 مليون شخص إلى صناديق الاقتراع. بالنسبة إلى حزبٍ لم يسبق له اختيار مرشحٍ رئاسي عبر انتخاباتٍ تمهيدية، كان ذلك نجاحًا مذهلًا.

رغم أنه لم يكن استفزازيًا بقدر نيكولا ساركوزي، إلا أن فيون أكد على ما يعتبره تحديًا غير مسبوق يمثله الإسلام لفرنسا

اقرأ/ي أيضًا: كيف تناولت الصحف فوز فيون في انتخابات اليمين؟

كان مذهلًا أيضًا كيف تطابقت الخريطة الانتخابية مع الخريطة السوسيولوجية التي وصفها تود ولو برا، حيث صوتت الأقاليم الغربية التي اعتبرها المؤلفان جيوب زومبي كاثوليكية "متصلبة أنثروبولوجيًا" بكثافة لصالح فيون، بينما كانت نسبة المشاركة في الأقاليم التي اعتبراها جيوب ليبرالية "متصلبة أنثروبولوجيًا"، خاصةً في باريس والجنوب، أقل بكثير. كان المغزى واضحًا: لعب الكاثوليك، أو على الأقل الزومبي الكاثوليك، دورًا أكبر من حجمهم في الانتخابات التمهيدية.

يشير زارتسكي إلى أنه ما زال من غير المعلوم إلى أي مدى سيظل فيون كاثوليكيًا خلال حملته للوصول إلى قصر الإليزيه، لكن جميع الدلائل تشير إلى أن معتقداته صادقة وقوية. عندما انقلب المشهد السياسي عام 2012 بفعل الصدام الهائل على خلفية تقنين زواج المثليين، لم يخف فيون معارضته أبدًا. عندما تم تمرير القانون، صرح فيون بأن القانون يجب احترامه، لكنه عبر مرارًا عن اعتراضه على ما اعتبره "إفراط القانون"، وهو ما عنى به السماح للمثليين بتبني الأطفال أو استخدام أم بديلة. اجتذب عداء فيون للقانون دعم "المنطق السليم"، وهي منظمة كاثوليكية محافظة على صلةٍ بـ"احتج من أجل الجميع"، وهي الحركة السياسية التي قادت الاحتجاجات الضخمة ضد قانون زواج المثليين. ظهر الزعيم السابق للحركة في مقر فيون يوم الأحد لتهنئته بانتصاره. كما أرسل أيضًا رفض فيون الشخصي للإجهاض -"نظرًا إلى عقيدتي، لا يمكنني الموافقة على الإجهاض"، قال فيون في أوائل أكتوبر- موجات من القلق عبر الطيف السياسي الفرنسي.

يظل السؤال هو إذا كان الفرنسيون الكاثوليك سوف يحافظون على مقاومتهم لخطاب الجبهة الوطنية المعادي لأوروبا والمسلمين والليبرالية

ويضيف زارتسكي أن تصريحات فيون بشأن الإسلام كانت مقلقة بنفس القدر. رغم أنه لم يكن استفزازيًا بقدر نيكولا ساركوزي، الذي لعب بقوة على "وتر الهوية" خلال حملته، إلا أن فيون أكد على ما يعتبره تحديًا غير مسبوق يمثله الإسلام لفرنسا.

يشدد فيون على "جذور فرنسا المسيحية"، وهي عبارة رفضها النقاد باعتبارها تحذير للفرنسيين المسلمين بأنهم ليسوا في وطنهم في فرنسا. ادعى فيون أن هناك "مشكلة محددة مع الإسلام المتطرف"، مضيفًا أن "الكاثوليك والبروتستانت واليهود والبوذيين والسيخ لا يهددون وحدتنا الوطنية". لم يكن من المفاجئ إصدار التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا تحذيرًا بشأن ترشح فيون، أعلن فيه أن التصريحات المعادية للإسلام التي جاءت على لسان المتحدثة باسمه -خاصةً تصريحها بأن المسلمين المتطرفين فقط هم الذين يرتدون الحجاب- تمثل "قدرًا ضئيلًا مما يمكن توقعه" إذا فاز فيون بالرئاسة.

في اليسار والوسط، كان رد الفعل هو الهلع، كما لو أن زومبي حقيقيين قد اجتاحوا فرنسا. كانت بعض العناوين في الإعلام الفرنسي عقب فوز فيون بالانتخابات التمهيدية أبوكاليبتية بقدر تلك التي كانت في الولايات المتحدة عقب فوز دونالد ترامب. أشار أحد كتاب الافتتاحية في صحيفة اللوموند أن فوز فيلون، ببساطة، كشف عن "صعود يمينٍ كاثوليكي ميراثي".

ورغم ذلك، يردف زارتسكي، بالنظر إلى الحالة المزرية لليساريين المرتبطين بأقل الرؤساء شعبية في تاريخ الجمهورية الخامسة، يبدو أن فيون هو الشيء الوحيد الذي يحول بين فرنسا ورئاسة الجبهة الوطنية في انتخابات الربيع المقبل. السؤال الآن هو ما إذا كان سيستطيع إقناع الناخبين من الوسط واليسار بالتخلي عن مخاوفهم بشأن دينه وخططه الاقتصادية التقشفية.

يظل أيضًا السؤال مطروحًا عما إذا كان الفرنسيون الكاثوليك -زومبي أو غير ذلك- سوف يحافظون على مقاومتهم لخطاب الجبهة الوطنية المعادي لأوروبا والمسلمين والليبرالية. يبدو أن فيون قد جنى ما يدعوه مختص الأديان هنري تِنك "كاثوليكية الهوية". هؤلاء الرجال والنساء الفرنسيين، قال تنك، "غير مرتاحين مع حداثة محت بدرجةٍ كبيرة القيم المسيحية من قضايا مثل التعليم والعائلة والعمل والجنسانية"، ويتزايد استياؤهم من المؤسسات العابرة للحدود مثل الاتحاد الأوروبي والتدفق العابر للحدود للأشخاص -خاصةً عندما يكونون مسلمين قادمين من الشرق الأوسط- وهو ما دفعهم إلى اللجوء إلى الأمان الظاهري للمؤسسات الوطنية تقليديًا مثل الكنيسة الكاثوليكية. يعرض عليهم فيون الآن بديلًا سياسيًا جذابًا لعلمانية اليسار المتصلبة وإرث اليمين المتطرف البغيض.

لكن إذا كان تنشيط الهوية الكاثوليكية يشكل بالفعل تحولًا في المشهد السياسي الفرنسي، إلا أن أهميته النهائية ما زالت غير واضحة.

يعتمد الكثير على الاتجاه طويل الأمد الذي سوف يسلكه القطيع المستيقظ أخيرًا من الزومبي الكاثوليك. هل سوف ينسحبون إلى اليمين أكثر حيث أحضان الجبهة الوطنية؟ أصر دائمًا المؤرخ الراحل للسياسة الفرنسية رينيه ريموند على أنه كلمًا كان الفرنسيون الكاثوليك ملتزمين دينيًا، قلت احتمالية تصويتهم لصالح الجبهة الوطنية. لكن تلك الحقيقة البديهية قد خفتت كثيرًا؛ علاوةً على ذلك، هي لا تنطبق على الزومبي من البداية.

كشف استطلاعٌ للرأي أجري عقب الانتخابات المحلية العام الماضي أن 32% من الكاثوليك الملتزمين قد صوتوا لصالح الجبهة الوطنية. لم يكن ذلك أعلى فقط من المتوسط الوطني -28%- لناخبي الجبهة الوطنية، وإنما أيضًا أكثر من ضعف نسبة الكاثوليك الذين صوتوا للحزب عام 2014. وصفت إحدى المجلات الكاثوليكية الأمر بأن "السد الكاثوليكي ينهار".

ويختتم زارتسكي بأن فيون قد يكون قد ركب موجة من الموتى الأحياء إلى الفوز في الانتخابات التمهيدية، لكن يظل من غير المعلوم ما إذا كان الكاثوليك -موتى وموتى أحياء على السواء- سوف يقفون إلى جانبه في الربيع المقبل.

اقرأ/ي أيضًا:

 فرنسوا فيون في الإليزيه.. من يدري!

مرشحا اليمين الفرنسي.. نقاط الاختلاف والاتفا