ألقت الاحتجاجات الغاضبة والمستمرة في عدد من المدن الفرنسية، على جريمة القتل العمد للصبي نائل، الضوء على ممارسات الشرطة الفرنسية التي تساهم في زيادة وتيرة الاحتجاجات، نتيجة العنصرية المتجذرة داخل الجهاز.
في بلد يعاني من اندلاع الاحتجاجات بصفة مستمرة، يكون من الصعب توجيه الانتقادات لأفراد الشرطة الذين يتعرضون للضغوط، والإصابات جراء مشاركتهم في قمع الاحتجاجات
نقابات شرطية قوية
يدور الحديث منذ فترة طويلة، حول عجز الحكومات الفرنسية، عن إصلاح جهاز الشرطة، الذي تقف خلفه نقابات شرطية قوية، فيما تسعى النقاشات ضمن التيار السائد في فرنسا إلى حرف الانتقادات عن عناصر الشرطة.
في المقابل، يشير خبراء في فرنسا، إلى أن السلطات الفرنسية لم يعد باستطاعتها غضّ الطرف عن اتهامات، صادرة من قبل مجموعات حقوقية، كان أبرزها الأمم المتحدة، عن تفشي العنصرية داخل جهاز الشرطة، فيما يخص قضايا التصنيف العرقي، والقضايا المتعلقة بالتجنيد والتدريب، وعقيدة الشرطة.
وفي هذا الإطار، نشر المؤرخ الفرنسي سيدريك ماس، تغريدة في حسابه على تويتر يقول فيها: "الشيء الثابت هو رفض القوى السياسية العمل على أحد عوامل هذا الخليط المتفجر، وهو الشرطة"، وتابع: "أدت أعمال الشغب في الولايات المتحدة وبريطانيا في الستينيات والثمانينيات إلى إصلاحات عميقة داخل أجهزة الشرطة. في فرنسا؟ لم يحدث شيء على مدى السنوات الأربعين الماضية".
بدوره، رد أستاذ العلوم السياسية في جامعة غرونوبل سيبستيان روشيه، على وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، الذي كشف عن اعتقال أطفال بعمر 12 و13 عامًا، مشاركين في الأحداث، قائلًا: إن "الفكرة هي أن مضاعفة جرائم القتل التي ترتكبها الشرطة خلال عمليات تفتيش على جانب الطريق، لا تتطلب استجابة حازمة وفورية، ولكن إذا ارتكب طفل يبلغ من العمر 12 عامًا جريمة، فهذا يعني أن هناك خطورة كبيرة. مدهش، أليس كذلك؟".
و على عكس عدد من الحكومات الغربية، مثل بريطانيا خلال أحداث عام 2011، والولايات المتحدة مع حركة Black Lives Matter (حياة السود مهمة) في عام 2013، التي شعرت بضرورة التعامل مع الاحتجاجات ضد الشرطة بسبب الممارسات العرقية على مدار العقود الماضية، ترفض فرنسا لاعتراف بأن العنصرية في أجهزة الدولة القمعية، وأساسًا شرطة، تلعب دورًا في تغذية الاحتجاجات.
ويشير أستاذ القانون في جامعة سيرغي في باريس أوليفييه كان، إلى أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة، قدمت نحو 30 تشريعًا يخص الجوانب القانونية والنظام في العقدين الماضيين، لم تتضمن في أي منها قانونًا لإصلاح جهاز الشرطة، منذ قانون الإصلاح الذي تم إقراره عام 1995، وأعطى نقابات الشرطة سلطات إدارة مشتركة واسعة النطاق.
وأضاف أوليفييه كان في مقابلة مع "رويترز": "منذ تلك اللحظة، أصبحت النقابات مشاركة في كل شيء يمكن إدارته بصورة مشتركة، بما في ذلك إدارة الموارد البشرية. والنتيجة الملموسة في السنوات التالية هي إبرام اتفاقيات بين النقابات وعدد من وزراء الداخلية".
وتضمن هذه السلطات الواسعة للنقابات، ولاء ضباط الشرطة على الأرض، وتجعلهم يدينون لترقيتهم الوظيفية للنقابة التي ينضمون لها، مما أعطى قادة هذه النقابات نفوذًا كبيرًا على وزراء الحكومة، وتابع كان: "التخوف الرئيسي هو فقدان السيطرة على جهاز الشرطة".
الحكومة ترفض الإصلاح
ومع ذلك، فقد حاول بعض وزراء الداخلية في الحكومات الفرنسية المتعاقبة إصلاح جهاز الشرطة، وإضفاء مزيد من الاستقلالية على عمل هيئة مراقبة جهاز الشرطة (IGPN).
ففي حزيران /يونيو 2020، أعد وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانير، خطة لإصلاح جهاز الشرطة، وشمل ذلك عدة خطوات تمثلت في: حظر خنق الأشخاص أثناء عمليات الاعتقال، وإصلاح هيئة مراقبة جهاز الشرطة، وتطبيق سياسة عدم التهاون مطلقًا مع العنصرية داخل الجهاز.
وبعد الرفض القوي من قبل نقابات الشرطة لخطة الإصلاح، صدر القرار بتعيين جيرالد دارمانان بدلًا من كاستانير في تعديل وزاري بعد شهر من انطلاق خطة الإصلاح.
وفي هذا الاتجاه، يوضح مستشار الاتصالات للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ووزير الداخلية في عهده فرانك لوفرييه، نقطة مهمة قائلًا: "إما أن تدعم الشرطة أو تواجه المشاكل"، ويضيف "وزارة الداخلية تقوم على العامل البشري ومشاعرك تجاههم، لأن أفراد الشرطة يتعرضون للهجوم كل يوم".
وأثار اقتراح طرحه هذا العام، وزير الداخلية جيرارد دارمانان لإصلاح فرع تحقيقات الشرطة حالة من الغضب داخل أجهزة الشرطة، مما أدى إلى وقوع عدة إضرابات في وقت كانت تعاني فيه الحكومة الفرنسية من اندلاع تظاهرات ضد خططها لإصلاح قانون التقاعد.
ممارسات عنصرية
خلال اندلاع الاحتجاجات الحالية في ضواحي المدن الفرنسية، التي يقطنها أفراد مختلطين عرقيًا، تتهم منظمات حقوقية، منذ وقتٍ طويل، الشرطة بإتباع سياسة عنصرية ممنهجة.
وأعرب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، يوم الجمعة، عن "قلقه إزاء الوضع في فرنسا"، وحثّ الحكومة الفرنسية على "معالجة التمييز العنصري".
وقالت المتحدثة باسم المكتب رافينا شامدساني: "هذه فرصة للبلاد لتعالج بجدية المشكلات العميقة المتعلقة بالعنصرية والتمييز العنصري في إنفاذ القانون".
بالمقابل، تقول نقابات الشرطة ووزير الداخلية، إنه لا توجد سوى حالات متفرقة من العنصرية، وينكرون أن تكون منهجية أو منتشرة.
وتحدث أحد أفراد نقابة الشرطة ويدعى أنتوني كاي، لوكالة "رويترز"، قائلًا: "هناك عنصريون، ولا أحد ينكر ذلك.. لكن بشكل ممنهج، لا أعرف ماذا يعني ذلك".
وفي مقال نشره الصحفي لي هوكستادر، في جريدة "الواشنطن بوست"، جاء فيه، أن الغضب نادرًا ما يكون غير ظاهرًا في الأحياء الشعبية الواسعة التي تحيط بالكثير من المدن الفرنسية، ويسكنها أبناء الطبقة العاملة من الأقليات، ولأسباب كثيرة يكون دائمًا موجهًا نحو الشرطة، ففي حادثة مقتل الصبي نائل سجلت لقطات فيديو الحادث الذي يظهر أن الشاب لم يكن مسلحًا، وكان يحاول تحريك سيارته بعيدًا عن الشرطة.
ويعلق كاتب المقال على الحادث، مشيرًا إلى أن عناصر الشرطة الفرنسية يخرجون أسلحتهم ويطلقون النار بمعدل قليل جدًا مقارنة مع الشرطة الأمريكية، وعادة ما ينظر في فرنسا إلى العنف والعنصرية على أنها مشكلة أمريكية، وهذا رأي منتشر بين الفرنسيين البيض.
وفي أوساط المهاجرين، تسود منذ سنوات مشاعر قوية، تنظر للعنصرية الممارسة من الدولة باعتبارها انعكاسًا للمجتمع الفرنسي بشكلٍ عام، فقد كشفت دراسة مسحية أن 9 من كل 10 من أصحاب البشرة السوداء وأبناء الملونين المقيمين بفرنسا، واجهوا تمييزًا عنصريًا، وقالت الدراسة إن نصف المشاركين تم توقيفهم والطلب منهم تقديم هوياتهم، وهي نسبة أعلى بضعفين عن بقية السكان.
ففي الأشهر الأولى للحجر الصحي، بسبب انتشار جائحة كورونا، وجدت دراسة مسحية لوكالة "رويترز" للأنباء، أن الشرطة الفرنسية فرضت غرامات في 5 دوائر للمهاجرين بنسبة أعلى أكثر من أي مكان في فرنسا.
وفي حكم هام صدر عام 2021، ذكرت محكمة الاستئناف في باريس، أن "التمييز كان وراء عملية للشرطة للتحقق من هوية ثلاثة من طلاب الثانوية، تعود أصولهم إلى المغرب ومالي وجزر القمر ويحملون المواطنة الفرنسية، خلال تواجدهم بمحطة للقطارات في باريس في عام 2017"، وقررت المحكمة منح مبلغ تعويض للطلبة الثلاثة وقدره 1500 يورو، إضافة إلى الرسوم القانونية.
الشعور بالحصانة
وبحسب المنظمات الحقوقية، فإن تلك الأحكام والغرامات بحق أفراد الشرطة هي نادرة، وفي الغالب ينتهي الأمر بصدور أحكام مخففة بحقهم، ما يعزز الشعور لديهم بالحصانة.
ويقول عالم الاجتماع ورئيس تحرير مجلة "Police et société" سيباستيان روش: "ما نراه هو أن من الصعب على القضاة إصدار قرارات بسجن أفراد الشرطة. ولا يمثل ذلك حالة تنفرد بها فرنسا، إذ إنه توجد صعوبات في إدانة ومعاقبة أفراد الشرطة أيضًا في الولايات المتحدة ودول الشمال".
وبعد أزمة حركة "السترات الصفراء" بين عامي 2018 و2019، التي شهدت مصادمات عنيفة، وقمعًا من قبل الشرطة على مدى شهور، تجددت الانتقادات لعقيدة الشرطة وكذلك خططها.
وخلال السنوات القليلة الماضية، ارتبط ارتفاع عمليات إطلاق النار برصاص الشرطة والتي تؤدي لحالة وفاة، إلى قانون صدر عام 2017، والذي يوسع الظروف التي يمكن فيها للشرطي استخدام سلاحه الناري.
بحسب المنظمات الحقوقية، فإن تلك الأحكام والغرامات بحق أفراد الشرطة هي نادرة، وفي الغالب ينتهي الأمر بصدور أحكام مخففة بحقهم، ما يعزز الشعور لديهم بالحصانة
ودخل القانون حيز التنفيذ في أعقاب هجوم في نيس عام 2016، ويسمح القانون لأفراد الشرطة بإطلاق النار إذا اعتقدوا أن من المرجح أن يتسبب الشخص في إلحاق أذى بالناس.
وتشير الانتقادات إلى هذه المادة القانونية، باعتبارها "منطقة رمادية"، ويقول كايل من الجناح اليساري بنقابة الشرطة "CGT": "الأمر غير واضح تمامًا، ويسمح بحرية أكبر عند إطلاق النار، يجب إلغاء القانون". فيما العدد الأكبر من الضحايا نتيجة هذا القانون هم من أصحاب البشرة السوداء أو الأصول العربية.