الذي يعرف بيروت جيدًا يعرف قصة وسط المدينة. حتى الذي لا يعرف الكثير، سيعرف بسهولة أن هذا المكان لا يُشبه نفسه، بل تسيطر عليه عمارة كولونيالية، وشوارع نُسِجت على مقاس المتاجر. هكذا اكتسب المكان اسمه الخبيث: الوسط التجاري. كان يُسمّى بين أهل المدينة "البلد"، قبل أن يتحول بعد استكمال هيئته النيوليبرالية إلى "داون تاون" و"سنترفيل"، كما قد يقول عن المكان من لا يعرف عنه إلا صورته التي هي عليه الآن. هذه صورة جديدة، تشكلت منذ منتصف التسعينات وحتى أول الألفية، وقد صار معلومًا أن معظم مباني قلب بيروت هدمت بعد الحرب، وليس خلالها.
الذي يعرف بيروت جيدًا يعرف قصة وسط المدينة. حتى الذي لا يعرف الكثير، سيعرف بسهولة أن هذا المكان لا يُشبه نفسه، بل تسيطر عليه عمارة كولونيالية، وشوارع نُسِجت على مقاس المتاجر
الجيل الذي يتظاهر الآن غالبه ولد بعد نهاية الحرب. ما الذي يعنيه هذا؟
يعني أنه لا يعرف من وسط بيروت الحقيقي سوى صور غالبها بالأبيض والأسود. حتى أن مبنى "البيضة" الشهير، لم يظهر سوى كصرح أثري لمعظم المتظاهرين. كان المبنى مجرد شبح، وكانوا يصعدون إليه عبر سلم مهترئ، كما لو أنهم يصعدون إلى سطح المدينة نفسها. قبل خمسين عامًا، هذا المبنى كان يُدعى "سيتي سنتر". وكان الأول من نوعه في المنطقة، كصورة أولية عما نعرفه اليوم بالمول. وباستثناء بعض المحاضرات التي أقيمت داخل المبنى وأثارت احتجاجًا لطابعها الدخيل على الانتفاضة، حوّل المتظاهرون هذا المبنى تحديدًا إلى رمز. أرادوا أن يعلنوا استعادة تاريخ المدينة، من حاضرها الرأسمالي. كان السيتي سنتر عصيًا على الهدم.
اقرأ/ي أيضًا: بيروت الغاضبة برسم أبنائها
هل كانت أولى خطوات الرأسمالية في المدينة؟
يحتاج هذا إلى بحث طويل. لكن قطعًا عملية الهدم ليست مجرد عملية نوستالجية. صحيح أن هدم المباني هو إزالة لها من الماضي، وتاليًا هدمها من الذاكرة أيضًا، لكنها عملية رأسمالية أيضًا. الهدف الأساسي منها هو تسوية العلاقة مع الأرض، وتعطيل عملية الترميم، لخلق تصور بحاجة إلى البناء من الصفر. وهكذا بدأ المشروع الرأسمالي في وسط بيروت: كان الحديث عن التحديث. تعرف الناس إلى هدم مدينتهم، بوصفها حقبة جديدة، أو بوصف هذا العمل نهوضًا من مدينة أقعدتها الحرب. ولن يجد المطورون الرأسماليون ذريعة أفضل من الحرب لتشغيل جرافاتهم. ثمة حقيقة غير معلنة سببها الهدم. للعمارة بشكلٍ عام وظيفة أساسية: توفير الخيارات. العمارة الجديدة، في وسط بيروت، لها وظيفة جديدة أيضًا، ومضادة لوظيفة العمارة الفطرية: إلغاء الخيارات.
هل الفراغ بين ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح معنوي؟
علاقة المتظاهرين بمدينتهم ليست على ما يرام. لا يمكن القول إنها غير متينة، بل إنها علاقة من طرف واحد. فالذين اتخذوا ساحة الشهداء مقرًا، غير الذين اتخذوا رياض الصلح. وإن كانت العلاقة بينهم مفتوحة وممكنة عبر شارع طويل، إلا أنهم رسموا حدودًا بين الساحتين، تناسب ذائقتين مختلفتين. ولطالما مثلَ وسط المدينة بصورته المشوهة بعد هدمه وإعادة إعماره من جديد نموذجًا لذائقة رأسمالية محددة. حتى أن المتظاهرين في الساحتين، يكتشفون الأسئلة، قبل اكتشاف المدينة. ودائمًا، وبما أنهم يحتشدون في ساحة، ويصطدمون بمبانٍ جزء منها مجهول فعلًا، يجدون نفسهم أمام سؤال صعب.
هل هناك حاجة لكل هذه المباني؟
هناك أكثر من إطار نظري، يمكن اللجوء إليه، لتفسير جدوى بقاء المباني وجدوى إزالتها، وتاليًا جدوى إنشاء المباني الجديدة بدلًا منها. غير أنه يجب الإشارة إلى المعضلة الرأسمالية، التي تعتبر أن المباني تدخل في عملية الإنتاج، يعني أنها ضرورية على نحو لا يمكن النقاش فيه. ما يمكن النقاش فيه، ضمن الباراديغم الرأسمالي التقليدي، هو حسابات الربح والخسارة. وليس غريبًا أن يكتشف المتظاهرون أن أغلب المباني حولهم هي مبان تشغلها المصارف، التي اكتشفوا أنها عدوتهم. خلال المرحلة التي سميت إعادة الإعمار، وكانت مرحلة لإعادة تشكيل المدينة على أسس رأسمالية جديدة، صار النقاش عن مضاعفة الكسب من المضاربات العقارية، بالتحول من عمليات التملك التقليدية، إلى عمليات بيع بصيغ الأسهم والعقارات وما إلى ذلك.
فلنعترف: المتظاهرون لا يهمّم هذا النقاش
ما يهمّ المتظاهرين فعلًا بالدرجة الأولى، هو إعادة بناء العلاقة مع المدينة، بعدما هدمتها جرافات النيوليبرالية، بحجة إعادة الإعمار وإنهاء آثار الحرب. وبدرجة موازية، يهمّهم إثبات نظريتهم عن الحقائق الطبقية الماثلة أمامهم، مثلما مثلت أمام كثير من الفقراء في العالم، حيث تحولت المباني إلى أدوات متطورة لهيمنة رأس المال. في بيروت تحديدًا، هناك مشكلة سكنية كبيرة، وهناك أزمة في قانون الإيجارات، حيث أقرت السُلطة نفسها قانونًا منذ فترة، كانت نتائجه لتكون كارثية، وتفرغ المدينة من سكانها. وقبل ذلك، وبتأثر واضح بالسياسات الليبرالية في العالم بشكلٍ عام، اخترعت بدعة القروض السكنية، ما أدى إلى استفادة أصحاب العقارات من أوهام اللبنانيين الناشئة، بالحق في التملك، عوضًا عن الحق في المدينة. المتظاهرون أمام أصواتهم فقط، أمام مبان ضخمة لا يمكنهم أن يسكنوها.
اقرأ/ي أيضًا: بيروت مدينة من؟
ما يحدث اليوم، هو إعادة اكتشاف الحق في المدينة. لكن السُلطة لم تستسلم بسهولة، وتعمل جيدًا على حراسة المصالح ذاتها، التي قام الوسط التجاري على شكله هذا لأجلها. العلاقة في الساحتين ليست مجرد علاقة بين ساحات مستعادة ومبانٍ ملتبسة من جهة، ومتظاهرون من جهة أخرى.
ما يحدث اليوم في احتجاجات بيروت، هو إعادة اكتشاف الحق في المدينة. لكن السُلطة لم تستسلم بسهولة، وتعمل جيدًا على حراسة المصالح ذاتها، التي قام الوسط التجاري على شكله هذا لأجلها
العلاقة أيضًا بين مواطنين وسُلطة، التي وإلى جانب وجهها السلطوي في "العمارة الممنوعة"، تتمثل بأدواتها القمعية الأخرى: الأمن. صحيح أن القوى الأمنية اللبنانية لم تمارس عنفًا من ذلك النوع المعتاد في العالم العربي، مثل مصر وسوريا وغيرها من البلدان، إلا أن أنها تتعامل مع الساحة ضمن العقلية الأمنية التقليدية. ومثلما يحاول المتظاهرون إعادة اكتشاف العلاقة مع المدينة كمدينة، تحاول المنظومة الأمنية باختلاف تشعباتها وحساباتها، إعادة اكتشاف المدينة كسجن دائري، مثل ذلك الذي يتحدث عنه ميشال فوكو، بحيث يمكنها مراقبة جميع السجناء على ذات الدرجة، طوال الوقت. لكن ما هو مؤكد، أن المتظاهرين اكتشفوا جانبًا جديدًا من مدينتهم، لطالما كان مختبئًا خلف عمارات لا تعني لهم شيئًا.