10-ديسمبر-2016

لا يعلم الحارس عن السجين إلا أنه عدو الدولة الأول (إيان والدي/Getty)

يقف يواخين شايدلر أمام مجموعة مكونة من 12 شخصًا ويقول لهم بنبرة تتأرجح بين المزاح والجدية: "من فضلكم لا تسألوني عن أي تفاصيل حتى نصل لغرفة الاستجواب والتحقيق، سأقودكم داخل السجن شارحًا لكم النظام هنا وعندما يأتي الوقت المناسب سننجرف للتفاصيل الأهم.. إذا كانت التعليمات واضحة للجميع فبوسعنا أن ننطلق.. إلى اليسار يا مساجين!".

ينقلنا يواخين شايدلر في رحلة إلى سجن هوهنشونهاوزن في شرق مدينة برلين الذي كان معسكرًا سريًا لسجن المعتقلين السياسيين

"قد يكون شايدلر أحد حراس هذا السجن إن شاءت الأقدار، لكنه حتمًا كان سيفشل طالما استمر في هذه النبرة الهادئة التي يتسلل إليها شيء من الاحترام.."، يشرح الأستاذ شايدلر أن "حارس السجن هو صاحب السلطة الكاملة هنا في معظم الأمور، هو من يأمر وينهي، كي يكون حارسًا ناجحًا يجب أن يُرهب السجين.. هكذا كان الوضع.. لا يعلم الحارس أسباب وجود السجين في هذا السجن، لكنه يعلم أنه عدو الدولة الأول بشكل أو بآخر، بالطبع هو مذنب.. فلماذا نُشعِر المذنبين أنهم أناسًا مثلنا؟".

اقرأ/ي أيضًا: نيستاني.. فنان إيراني دخل السجن بفعل حشرة

يسير بنا شايدلر من السجن القديم إلى السجن الجديد داخل هذا المجمع الواسع، وفي السجن الجديد يعرض لنا النمط الطبيعي لحياة السجين، من "جراج" السجن حيث يصل المساجين إلى غرف الفحص والتوزيع، إلى الغرف التأديبية وحتى الزنازين.. يدخلك شايدلر في جو يُشعِرك أنك لم تمض ساعة داخل السجن بل عمرًا كاملًا.

هذا سجن هوهنشونهاوزن القابع في شرق مدينة برلين والتي كانت عاصمة جمهورية ألمانيا الديمقراطية - أو ألمانيا الشرقية، الدولة التي خلت من الديمقراطية تمامًا إلا في الأوراق الرسمية. كانت ألمانيا الشرقية تحت قيادة الحزب الشيوعي منذ تأسيسها عام 1949 وحتى سقوط جدار برلين عام 1989، وفي هذه الأثناء استغل الحزب الحاكم منطقة هوهنشونهاوزن لإقامة معسكر سري كبير يختبئ داخله مقر رئيسي لوزارة الداخلية وسجن للمعتقلين السياسيين لم يكتشفه أحد إلا بعد سقوط الدولة. عمل في هذه الوزارة حوالي 91 ألف موظف سري للتنصت على المواطنين، بينما استقبل السجن حوالي 40 ألف سجين خلال أربعة عقود.

اليوم السجن أشبه بمتحف أو نصب تذكاري يقف في موقعه شامخًا ليخلد كل من ظلموا داخل جدرانه، ويوظف السجن مسجونين سابقين ليقودوا الزائرين داخل هذا الجحر ويذكروهم بأهمية حرية الرأي والتعبير وبأهمية الشفافية وقيم الديمقراطية.. يخلق هذا السجن أبطالًا ممن ظلموا يومًا داخل جدرانه.

عند وصولنا إلى غرفة التحقيق، جلس شايدلر على كرسي المحقق وسرد إلينا كيف أتى إلى هذا السجن أول مرة في صيف عام 1968 داخل سيارة نقل تابعة لشركة أسماك كانت تستخدم آنذاك لنقل المعتقلين السياسيين سرًا.. وبعد التفتيش تم إعطاء شايدلر ملابس تكبر حجمه الضئيل، ومن ثم توجيهه إلى زنزانة انفرادية.. كان شايدلر قد سُجن بعد أن وزع منشورات تدين هجوم الاتحاد السوفيتي على تشيكوسلوفاكيا، بعد محاولات من قائد الحزب الشيوعي الجديد ببراغ لتقديم إصلاحات سياسية في نظام الحكم.

صار سجن هوهنشونهاوزن في برلين أشبه بمتحف يقف في موقعه شامخًا ليخلد كل من ظلموا داخل جدرانه

اقرأ/ي أيضًا: عبد الحميد الجلاصي.. حصاد السجن التونسي

هذا الهجوم أفسد حلمين كان يتشبث بهما شايدلر، أولًا: لم تعد المنحة الدراسية التي حصل عليها لدراسة الدكتوراه بمدينة براغ صالحة، وثانيًا: ضاع حلمه بأن تصبح الشيوعية تيارًا ينصر الشعوب كما قرأ عنها وليس كما رآها من دكتاتورية وطغيان. طبع ووزع شايدلر منشورًا بحجم كف اليد يقول فيه "أيها المواطنون والرفاق، لا تصمتوا على الاعتداء الغاشم الموجه لبراغ، وانصروا محاولاتهم لإعطاء الشيوعية وجهًا إنسانيًا وإنقاذها من أيدي الطغاة". اعتبرت السلطات هذا المنشور إدانة كافية لاتهام شايدلر بجريمة القيام بأعمال مضادة للثورة وسجنه عامين ونصف عام.

داخل السجن، عاش شايدلر أول ثلاثة أشهر في عزلة كاملة، لا يرى إلا وجهين: وجه حارسه الذي لا يستطيع أن يخاطبه ووجه المحقق الذي يحاول إدانته، يقاد شايدلر وحيدًا مرة كل أسبوع للاستحمام ومرة كل أسبوعين للتنزه بمفرده في زنزانة بلا سقف، يجلس في زنزانته وحيدا 16 ساعة في اليوم وسط الملل والعبث، فلنا أن نتخيل ثقل الوقت في هذه الظروف.. حتى وقت النوم كان مسموحًا له فقط أن ينام على ظهره كاشفًا وجهه وكفيه، إذا استدار أثناء نومه أو غطى وجهه أيقظه الحارس ليلتزم بنظام النوم، بعد أربعة أسابيع فقط، استطاع شايدلر أن ينام ليلة كاملة دون أن يخرق قواعد النوم.. مثل المومياء. لم يتعرض شايدلر للتعذيب البدني لكنه بالتأكيد تعرض إلى تعذيب نفسي.

كلما نظرت إلى شايدلر بعد أن تحول من مسجون سياسي إلى مرشد داخل أروقة سجن هوهنشونهاوزن التذكاري ورأيت زنازين السجن وغرف التحقيق، تذكرت سجن القلعة في القاهرة بزنازينه القبيحة، والذي يمثل اليوم جزءًا من متحف الشرطة بقلعة محمد علي. يقف سجن القلعة ليمجد من كمموا الأفواه وشقوا أظهر السجناء بسياطهم، بينما يقف شايدلر أمام نصب تذكري يخلد المظلومين ويعتذر لهم عن معاناتهم.

يتركنا شايدلر بصدى كلماته في فناء السجن "خلدوا كل من ظلم بسبب حلم حتى وإن اختلفتم معه، فمعظمنا لم يكن بوسعه إلا أن يحلم وسط عالم يفيض بالعبث".

اقرأ/ي أيضًا: 

كهف آل حاتم.. العالم السفلي لأمناء الشرطة في مصر

ماذا قالت هيومان رايتس ووتش عن سجن العقرب؟