22-نوفمبر-2016

الكاتب التونسي عبد الحميد الجلاصي (فيسبوك)

أن يقف سجين سابق ويتحدث لسجين سابق مثله، وهما ينعمان بالحرية، أمر فيه الكثير من الأمل والألم معًا، فداخل السجن كانا مفقودين وخارجه ولدا من جديد، لكن شتان بين سجن يسلب الحرية، وبين سجن جديد عنوانه سنوات الغياب.

هكذا وقف الكتاب عبد الحميد الجلاصي (سجين لمدة تزيد عن 17 سنة بسجون تونس) وقف وهو يستمع لأحد سجناء الرأي في تونس في سنوات الثمانينيات، اعترافات، أو نسميها إعادة صور الذاكرة القاتمة القاسية، يتذكران الوجع، بعدما أكل الحديد والنار جسديهما.

مشهد يحبس الوقت واللغة، لتنطق لغة الألم والأمل معًا، قال نورالدين: "أبكيتني سيد عبد الحميد، أنا أكبر منك سنًا وبلغت من العمر عتيًا، تألمت كثيرًا وعذبت كثيرًا، قصتك أبكتني لأنها كانت جزءًا من استعادة نفَس جديد، لإكمال الحياة، أنت تتحدث عني وعن الآلاف ممن عذبوا في سجون بن علي" متسائلًا لماذا سميتها "حصاد الغياب"؟

"رسائل سجن الغياب" هو رواية أو سيرة ذاتية أو قصص مهربة من سجون نظام بن علي السابق، لتعيد قراءة الماضي

اقرأ/ي أيضًا: رفاهية الزمن الصعب

نعم هي رواية أو سيرة ذاتية أو قصص الرسائل المهربة من سجون نظام بن علي السابق، تعيد قراءة الماضي الأليم، حيث يرى بأن الكتابة داخل السجن هي علاج من الانهيار والموت البطيء لأن "الغياب هو شقيق الموت".

لقد استخدم الجلاصي القلم كوسيلة للتعبير ولمناجاة العالم بداخله من خلال رسائل يبعث بها لأهله، لرفاقه في الفكر والنضال، كانت تعطيه الأمل في التشبث بالحياة فاعتبرها "المخاض الذي يمر عبر أكثر من محطة، حيث كان يتلصص على العالم من خلال ثقب إبرة ومراقبة الأيام وهي تنفلت بين أصابعه، خصوصًا وأن السجانين كانوا يحرقون رسائله أو يتركون بعضها تفلت إلى ما وراء السجن، فالرسائل كانت عبارة عن "وليد وفقدها كفقد الولد".

"أكتب لأقاوم، في النهاية لأبقى"، لكن تنهار الأسئلة في ذهن الجلاصي في زنزانته: "ماذا لو يقع المكتوب في يد الطاغية وماذا لو عوقب أهلك؟ ألا يسارع الطاغية بالتضييق على المسرحين جراء مثل هذه الرسائل خوفًا منهم أن يعيدوا التنظيم مجددًا؟

متابعة الكتابة في السجن تعني تدريبًا يوميًا للمستقبل في الحرص على امتلاك اللغة وعلى اختبار الأفكار. يقول الجلاصي، ليطرح سؤالًا جوهريًا: "ماذا يمكن أن يفعل سجين سياسي قضى سبعة عشرة سنة وراء القضبان بـ"حريته" غير أن يتعلم المشي من جديد وأن يعيد التعرف على الناس والشوارع والحياة؟"

اقرأ/ي أيضًا: علي بدر.. الرواية سباق مع الخراب

قصة حصاد الغياب، تروي تفاصيل أخرى عن علاقة الكاتب بالزوجة منية إبراهيم التي لم يمر على زواجهما سوى سنة وشهر، وكيف طلب منها أن تواصل حياتها من بعده، إلا أنها رفضت تركه حتى لو قضى كل العمر وراء القضبان، وهو الذي حكم عليه بالإعدام.

كانت تودعه من بعيد وهي تلوح له بيدها، إشارة منها بحسب اعتقاد الكاتب بأن يدها "لا تكذب"، وأنها ستظل معه إلى النهاية، رسالة إنسانية ظلت أمله الوحيد ليواصل الكتابة داخل زنازين الظلم.

ماذا يمكن لسجين قضى 17 سنة وراء القضبان أن يفعل غير أن يتعلم المشي من جديد وأن يعيد التعرف على الناس؟

تجربة مريرة لرجل تشبث برسائل زوجته ثم ابنته الوحيدة "مريم" وإخوته، خلال سنوات الغياب. حيث نجد أنفسنا أمام مؤلف وموثق يسرد وقائع لرسائل وصلته وأخرى ردت عليه، ورسائل لم يتمكن من إيصالها، ورسائل لم تكتب بعد فأعاد كتابتها، بلغة إنسانية تكشف معاناة سجين سياسي، يؤمن بأن الظلم زائل".

"حصاد الغياب. اليد الصغيرة لاتكذب" يدخل ضمن أدب السجون، يروي تجربة عبد الحميد الجلاصي في السجن، وسرد شهاداته عن ما يجري في السجون في عهد بن علي، وأساليب القمع والقهر وإذلال المساجين.

قدم الكاتب فيه وصفة سحرية تضم دواء علاج الظلم بخلق أعذار للسجانين والمعذبين والرافضين نقل رسائله، بداعي "الخوف"، مثيرًا أقواسًا كثيرة لم يغلقها بعد في هذا الجزء الأول من التجربة المؤلمة، وقد زينها بأسلوب إنساني جميل عن أساليب المقاومة اليومية التي انتهجها المناضلون على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم السياسية، ومساجين الحق العام أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل

ميثم راضي.. باكورة النّار