22-فبراير-2022

ماكينزي سكوت

مع تطور تقنية المعلومات الذي بدأت تباشيره في منتصف القرن الماضي، بدأ مصطلحا الواقع والافتراض يتناوبان في تعريف الحيز والمكان الذي يقيم الجسم البشري فيه، تبعًا لوسائط وآليات المعرفة والتواصل التي يستخدمها هذا الجسم في لحظة ما. وهذان المصطلحان يعرِّفان مساحة وجود الجسم في بنية الاجتماع البشري كبنية فكرية وعلمية وحيدة، يمكن فقط من خلالها تعريف البشر ودراسة أحوالهم. وهذه البنية الاجتماعية والعلوم (الاجتماعية) الناشئة لدراستها لطالما درست الفرد والاجتماع بوصفهما من المواضيع المستقلة بذاتها، إن كان من حيث فرادة الكائن أو من خلال علاقته مع الآخر والجماعة والسلطات السياسية والاجتماعية التي تشكل هذا الاجتماع.

لا يختلف الإنسان عن الأشياء التكنولوجية الأخرى التي صنعها، فهو يتشارك معها خصائصه من حيث امتصاص المعلومات وتدويرها في نظام معرفي داخلي

وهذه النظرة ترى التكنولوجيا كمجرد أداة صنعها البشر، وهم كائنات مستقلة عن صنيعتهم تلك. وهي بذلك آلية تأخذهم من حيزهم البشري الواقعي إلى حيزها الافتراضي. هذا التعريف البنيوي والسياسي للجسم البشري ككائن اجتماعي فقط هو تعريف يرى الجسم من خلال تقييم "طبيعي" بيولوجي واجتماعي بحت، بوصفه جسم متسيد على مملكة الأشياء والحيوان على حد سواء، ومترفع عن هذه الممالك من خلال تطويعه لها، بوصفه جسم ذكي يعرف كيف يتعامل مع الطبيعة ويتغلب عليها.

اقرأ/ي أيضًا: موت المثقف وتسيّد التقني

وهذا التعريف السياسي والاجتماعي الحديث للجسم، وضعته سلطات سياسية وعلمية أغفلت سمات أخرى أساسية له. فهذا الجسم هو أولًا كتلة مادية وخليط عضوي، أي أنه جسم تكنولوجي سابق للتكنولوجيا التي يصنعها. أو بمعنى آخر، تشكل التكنولوجيا إحدى سمات تركيبته كما البيولوجيا والكيمياء. فهو جسم يشتغل عبر نظام بيولوجي يتلقى ويحلل معلومات ضرورية لبقائه على قيد الحياة، يجمع ويعالج معطيات تساعده على استشعار حاجته للغذاء، وتميز الطعم واللون ويستقرئ الأخطار أو يتوقع تغيرات قد تطرأ على محيطه فيدرس كيفية التعامل معها سعيا للاستمرار. فالإنسان بهذا المعنى لا يختلف عن الأشياء التكنولوجية الأخرى التي صنعها هو. فهو يتشارك معها خصائصه من حيث امتصاص المعلومات وتدويرها في نظام معرفي داخلي، جاعلًا من هذه الأشياء التكنولوجية الذكية امتدادًا له من داخله الفيزيولوجي الضيق إلى خارج أرحب، في بنية مطابقة لبنية البرمجيات الإلكترونية كمجموعة معدات (hardware) تأوي جهازًا تقنيا معلوماتيا معقدًا (software).

ما يميز هذا الجسم عن باقي الكائنات والأشياء التكنولوجية هو نظامه المعلوماتي الفريد هذا، وقدرته العالية في حفظ وتخزين المعلومات، بالإضافة إلى تسلحه بنظام رمزي يعمل عبر ثنائية تزاوج التفكيرين العشوائي والممنهج في آن معًا. وبهذا التزاوج المعالجاتي والتحليلي للمعلومات، يستطيع الجسم البشري التكنولوجي أن يفكر في ذاته وفي محيطه القريب، وأن يتصور ذاته أيضًا في حيز بعيد متخيل يريد تطويعه. وفي هذه الفرادة التكنولوجية يجمع الجسم البشري بين التعقيد المكثف لتلقي وإنتاج المعلومات وهضمها وبين انفعالاته من جراء تعامله مع هذه المعلومات وانعكاس هذه الانفعالات تفاعلا مع ذاته ومحيطه. فهذا الجسم يبني صورًا عدة مختلفة عن ذاته ويحيا من خلال طبائع ووظائف عملية متعددة ومختلفة في آن معًا. فهو وسيط ميديائي ناقل ومترجم للمعلومات، وكتلة أعضاء بيولوجية تنشط في سياقات يضبطها نظام تحقيق أهداف وإنجاز، وهو أيضًا شيء من مجموع مملكة الأشياء، يجمع في ذاته الإستيتيك الجمالي وأنظمة الترميز والإحالات الرياضية والمنطقية. فرادته تكمن في أنه جسم يفكر بكيفية البقاء على قيد الحياة والتلذذ فيها في مدى آني وتصور مستقبلي.

خصائص هذا الجسم تحمل في طياتها نظامًا معلوماتيًا يعمل على سمتين متناقضتين. فمقابل المدى الرمزي والتفاعلي الوظيفي لهذا الجسم في حيزه الحيوي الآني والمنظور والملموس، يمتد مدى آخر متخيل يحركه قلق داخلي وجودي يتمحور حول كيفية الاستمرار على قيد الحياة في أي محيط آخر قد يقبل عليه ويجد نفسه فيه. ومثال على ذلك، أن هذا الجسم البشري يفكر في العيش على المريخ عبر ذات الآليات والتصورات التي ينتجها من خلال تفاعله على شبكات التواصل الاجتماعي أو قراءة الأخبار أو في أحوال الحب ولحظات الجنس والعطش والجوع والخوف. هذا الجسم يفكر بقدرته التكنولوجية كآلية أداء واحدة خلاصية للعيش والاستمرار البيولوجي والظهور الاجتماعي والبقاء، كائنا ما كان محيطه.

قدمت هاراوي السايبورغ كجسم خليط يجمع بين التقانة الآلاتية وبين الكائن الحي، وأرادت من خلاله بناء أسطورة سياسية جديدة تتسلح بها الحركة النسوية

وعليه، إذا ما نظرنا إلى الجسم من ناحية التقانة التي تؤلفه، فهو شيء يقيم في مملكة الأشياء، يتفاعل مع أشياء تقنية أخرى في شبكة علاقات يصنعها تأثير هذه الأشياء على بعضها البعض عبر نظام استخدام وتواصل تفاعلي. هذه المساواة التشييئية للجسم البشري أعطته صفة مكتشفة جديدة من خارج التعريفات الاجتماعية المتوارثة، وهو السند الفلسفي الذي اتخذته دونا هاراواي في سعيها لإخراج الجسم من الوظائف الأدائية التي وضعها له تحالف سلطات رأس المال والخطاب الذكوري عبر التاريخ. فهاراواي أطلقت مانيفستو السايبورغ الشهير عام 1985 كبنية تعريف جديد للجسم البشري جامعة في حبكة هذا التعريف الفلسفي الجديد حقل بحث بيولوجي وآخر اجتماعي سياسي.

اقرأ/ي أيضًا: البيتكوين: شراكة الليبرتارية والأناركية والأسواق

قدمت هاراوي السايبورغ كجسم خليط يجمع بين التقانة الآلاتية وبين الكائن الحي (organism &machine) .  وأرادت من خلال هذا التعريف بناء أسطورة سياسية جديدة تتسلح بها الحركة النسوية في مواجهتها مع السلطة الذكورية، التي سيطرت على التعريف العلمي والسياسي للجسم. فهذا التعريف الجديد يأتي معترضًا على رؤية الأجسام كأجسام اجتماعية بحتة، كما تصورتها الرؤية الذكورية وتأثيرها البطريركي في صناعة الخطاب المسيطر تعريفًا لهذا الجسم. دونا هاراوي رأت في الأصل التكنولوجي للجسم أول مفترق طرق تتفلت من خلاله من عسف التنميط الجندري المبني على رؤية اجتماعية طبقية وجنسانية لوظائف الجسم والمؤسسات التي يعيش فيها كالعائلة وسوق العمل ومباني الدولة.

فالنهوض من تحت أوزار تصورات رأس المال والذكورة لا يتصلب إلا عبر إحالة الجسم إلى أصل آخر من خارج التقسيم السياسي والاجتماعي السائد. فأصل الجسم التكنولوجي، وتماهيه مؤخرًا مع تقدم التكنولوجيا، يشكلان التربة الخصبة لهدم الصورة التاريخية المتوارثة لهذا الجسم. غير أن هاراواي في تقديمها لهذه الأسطورة أسرّت أن هذا التعريف هو تعريف ساخر للجسم. وأن السخرية في هذا المقام ضرورة لمقاومة الصلف والجدية الصارمة التي تسلح بها الخطاب الرأسمالي الذكوري. فوضع السخرية في أصل التعريف هذا اتخذ صفة التجديف عوضا عن الردة الكلية.

والتجديف مرفوعًا بالسخرية يحذف الجسم من منظومة الأفكار المسيطرة ويبقيه في الاجتماع، وعليه يمكنه بالمثابرة أن يستعيد سلطة التعريف وينتزع مكامن القوة من خطاب رأس المال والذكورة. فانتساب الجسم للتقانة المشكلة للاجتماع، وإقامته على سمت مساو في حقل الوظائف مع الأشياء التقنية الأخرى يجعله كائنًا اجتماعيًا فاعلًا، يجلس في قلب الاجتماع البشري وليس خارجه. بل إن هذا التعريف الساخر الجديد يكسر آلية التعريف السائد، ويحرر هذا الاجتماع من السلطات التي سيطرت عليه، وبالتالي، يتيح للجسم إعادة تعريف متكافئة له وللاجتماع الذي يعيش فيه. إعادة تعريف مبنية على وظائف يتشارك فيها هذا الجسم التقني مع الأشياء التقنية كلها، ولا تخضع لمتطلبات مصالح الذكورة ورأس المال. والسخرية هنا كأداة دياليكتية تستمد فعاليتها من كونها آلية تسمح بتظهير الوهم البصري الذي غلف التعريف "الطبيعي" للجسم عبر تحالف رأس المال والذكورة للسيطرة عليه. وبالتالي فإن تظهير هذا الوهم البصري يبدد الحدود بين الأجسام وتقسيماتها كليًا عبر تدمير الفوارق بين الخيال العلمي والواقع الاجتماعي.  فالسايبورغ هو جسم متخيل وواقعي في آن، يجمع تكنولوجية هذا الكائن المادية إلى واقعيته الاجتماعية.

النهوض من تحت أوزار تصورات رأس المال والذكورة لا يتصلب إلا عبر إحالة الجسم إلى أصل آخر من خارج التقسيم السياسي والاجتماعي السائد

والحال، فهذا الجسم إذا هو جسم سياسي بامتياز، جسم مديني يقيم في خنادق الصراع اليومي مع رأس المال والسلطات السياسية والاجتماعية والذكورية. وبفعل تعريفه التكنولوجي الجديد، فهو جسم لا يهرب إلى الطبيعة الأم، ولا ينكفئ إلى انطواءات اجتماعية منحسرة عن الصراع، بل يجلس مع رأس المال والذكورة في غرفة واحدة، ويطوع يوما بعد يوم الخطاب الذكوري المتسلط على المؤسسات الاجتماعية ومباني السلطات، ويقضم سلطته المتزايدة سلطة إثر أخرى. أي أنه حسب هاراواي جسم حربي، مختلف، مقاتل، متحيز لطبيعته الجديدة، ساخر في أدائه، ويعمل بحميمية عالية.

اقرأ/ي أيضًا: سعادة إيلون ماسك الإلهية

هذه السخرية المعرّفة للجسم التكنولوجي الحديث المتنافس على السلطة مع الذكورة ورأس المال، يبدو أنها مازالت قادرة أن تهزم هذه السلطات من داخل المؤسسات الرأسمالية والاجتماعية دون هدمها أو التخلي عن الأدوار الاجتماعية التاريخية التي رسمها وعرّفها هذا النظام. ففي العام الماضي سمَّت مجلة فوربس ماكينزي سكوت أكثر النساء سلطة في العالم. فوربس عللت أن سكوت تتحدى منطق القوة والسطوة المسيطر على الثقافة العالمية، أكان متعلقًا بسطوة الذكورة على القرار أو بسلطة المرأة الصاعدة إلى مركز القرار وتبوئها المناصب الرفيعة المنافسة للرجل.

والحق، إن موقف مجلة فوربس هذا، وهي مجلة رأس المال وأسواق التكنولوجيا ومنبرها الثقافي والصحافي، يستحق التفكر. فمكينزي سكوت هي شريكة طليقها جيف بيزوس في إنشاء وتغول أمازون، وهذه الشراكة تمنحها فرادة يطمح إليها كل ساع للمال والجاه والسلطة. فشراكتها هذه مع بيزوس استندت إلى ثقافة مقاولة تكنولوجية يحملها خطاب تراكم رأس المال وتقديم أجود أنواع تكنولوجيا المعلومات لخدمة البشرية.

وهذا الخطاب يثبت فاعليته باحتفالية دائمة بصناعة القيمة المضافة المتمثلة باستهلاك الرخاء وتأمين حاجيات المستهلكين أينما كانوا، مبنية على ظهور موظفين وعمال، لطالما اشتكوا من عسف نظام العمل والأجر القليل مقارنة بقوة عملهم وأرباح أمازون. وسكوت قدمت لجيف بيزوس الدعم النفسي والعائلي، فهي أم لأربعة أولاد بينهم ابنة بالتبني، وهي أولى موظفات أمازون في بداية الشركة، ومقررة أساسية في الشركة عند بداياتها، قدمت لبيزوس وأمازون الدعم المتواصل لثلاثة عقود من الزمن، وتحملت غيابه عن المنزل وانغماسه في مسيرة بناء وتطوير الشركة. وسكوت هي قصصية مغمورة آثرت أن تكبت نتاجها طوال عقد من الزمن لإعطاء بيزوس وإمبراطوريته فرصة نجاح. ماكينزي سكوت ضحت بسنوات من حياتها في خدمة الرجل ومؤسسته، ولكنها قررت الانفصال عنه مؤخرًا وتزوجت من أستاذ التاريخ الذي يعمل في مدرسة أولادها. سكوت استحقت 62 مليار دولار (25% ؜ من أسهم أمازون) كنفقات طلاق، وها هي تنفقها الآن في التبرع بها تباعًا لمؤسسات خيرية تعنى بالتعليم، والمساواة العرقية والجندرية.

سكوت، صانعة أمازون، هي جسد تكنولوجي بامتياز، سعت للسلطة والجاه ولمشاركة الرجل في القرار

لقائل أن يقول، إن سكوت، صانعة أمازون، هي جسد تكنولوجي بامتياز، سعت للسلطة والجاه ولمشاركة الرجل في القرار. فهي وبيزوس يشكلان تكثيفًا لتصور الكائن التقني عن ذاته. غير أن بيزوس آثر الاحتفاظ بسلطته وأعلن سأمه من إمبراطورية أمازون الأرضية، وعكف على بناء ذراع للشركة، يعنى بتطوير صناعة السياحة الفضائية. في المقابل فإن سكوت وعوضًا عن التنعم بالمال، ومتابعة مراكمة استثماراتها ومضاعفة سلطتها، قررت العودة إلى الحب في أحضان العائلة، ومتابعة عملها كناشرة وإعطاء المال الكثير لمن هو بحاجة. انه افتراق جذري لتصورات هذا الكائن التكنولوجي عن نفسه. بيزوس يرتحل عن الأرض وسكوت تعود إليها عبر مؤسسة الزواج، تلك المؤسسة التي لطالما اعتبرت من ثوابت السلطة الذكورية.

اقرأ/ي أيضًا: الاستثمار في الإفقار

أحد تعليلات مجلة فوربز عن أسباب اختيارها كاقوى امرأة العام الماضي كان في أن سكوت وزوجها الجديد أستاذ التاريخ يتبرعون بالمليارات دون أن يكون لديهم أي شركة تجارية تدير هذه المسائل المالية، وأن هذا التنازل عن السلطة والجاه من منتصر لأمر ميزها عن نساء أخريات وصلن إلى مركز القرار وأصبحن جزءًا من هرمية السلطة التي صارعن الرجل عليها. 

ماكينزي سكوت ودونا هاراوي يمثلن أرواحنا الالكترونية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العالم صوت

صعوبات فنجان من القهوة