23-يناير-2022

كاريكاتير لـ إلينا اوسبينا/كولومبيا

عدد كبير من الاقتصاديين ينطلقون في نظرتهم للتنمية من منظور فوردي (نسبة إلى هنري فورد). فيعتقدون أن الشركات الكبرى تحتاج إلى تعميم منتوجاتها وخلق مستهلكين جدد. وكلما كانت أعداد المستهلكين الجدد أكبر كلما حققت هذه الشركات أرباحًا، وبناء على هذه النظرة، فإن هذه الشركات تحرص على تمكين الأفقر والأقل دخلًا في أرجاء المعمورة من تحقيق مداخيل أعلى تتيح لهم شراء منتجاتها الأجد والأعلى تقنية.

تحرص الشركات على تمكين الأفقر والأقل دخلًا في أرجاء المعمورة من تحقيق مداخيل أعلى تتيح لهم شراء منتجاتها الأجد والأعلى تقنية

هذه النظرة تفترض أن البلاد الأفقر في العالم ستحقق ذات يوم، ولو كان بعيدًا، نموًا يكفي لولادة مستهلكين لهذه المنتجات التي تنتجها الشركات الكبرى. وتاليًا، وفي أثناء جلوس تلك البلاد في مقاعد الانتظار، يفترض بها تحسين أوضاعها الأمنية والقانونية وتأهيل بناها التحتية وانتظار الاستثمارات. وعلى هذه النظرة تنشأ نظريات سياسية وتتشكل أحزاب وتتصاعد احتجاجات، وتندلع ثورات.

اقرأ/ي أيضًا: كيف نصنع سلطة ونخضع لها؟

وبطبيعة الحال، فإن هذه القوى السياسية الناشئة وأحزابها، إنما تنشأ اعتراضًا على حال المراوحة التي تعيشها بلاد الظل، وانعدام القدرة لدى ساستها وحكوماتها، وعجزها عن تحقيق أي تقدم ملموس في أي مجال من المجالات، ما يرفع من حدة التهديد الذي تشعر به الشعوب التي ترى عيانًا مداخيلها تتضاءل وثرواتها تضمحل ولحمتها تتفتت. والمعنى، إن هذه الحكومات وهؤلاء الساسة يعيشون على الأرجح في زمن أسبق بكثير على زمن هذه القوى السياسية الناشئة. إنما ورغم تقدم هذه القوى، فكرًا وسلوكًا وآمالًا، على حكوماتها إلا أنها ما زالت متأخرة عن اللحاق بقطار التقدم والنمو.

والحق، إن ما يغيب عن بال هذه القوى الناشئة فكرة بسيطة جدًا. مفاد هذه الفكرة يؤدي إلى السؤال التالي: هل ترغب شركة آبل حقًا في تمكين كل البشر من شراء أحدث منتوجاتها؟ والإجابة الدقيقة على هذا السؤال ستكون حكمًا: لا، إنها لا ترغب. ذلك أن هذه الشركة، ومثيلاتها أيضًا، تحتاج لتحقيق أرباحها الكبرى إلى ثبات حالين.

الحال الأولى هي إبقاء منتجاتها قيد النظر والتداول وترغيب المستهلكين بشرائها واستخدامها، وهؤلاء بطبيعة الحال، هم الذين لا يملكون أحدث منتوجاتها. يستوي في ذلك غير القادرين على مجاراة دورات إنتاجها والآخرون الذين يسارعون لشراء آخر منتوجاتها ما أن يتم الإعلان عن توافرها، فما أن تبتاع منتجها حتى يصبح قديما وقليل الكفاءة. وعلى هذا توجه خطابها إلى الفئتين معا، فتبلغ الفئة التي لا تستطيع نيل الأحدث بأن ما تختبره في استعمال منتجاتها القديمة لا يقارن بما يمكن اختباره في منتجاتها الجديدة، وتعد الفئة القادرة على اقتناء الأحدث بأن المنتج اللاحق سيكون كاملًا ويعالج كل ثغرات المنتج الذي اشتروه للتو. أي أنها تبيعهم الوعد بمنتج كامل في المستقبل، وتطالبهم بتمويل أبحاثها لتسريع إنتاجه.

تقوم الشركات بتأبيد الفقر والمعاناة في أرجاء واسعة من العالم، لأن الاستثمار في الإفقار بات اليوم يشكل الطريقة الأفضل لتحقيق الأرباح

والحال الثانية تتطلب أن تبقى أعداد غفيرة من البشر غير قادرة على شراء هذه المنتجات الأحدث، وأن تواصل عيشها بمداخيل تقع تحت حد الفقر. فالعامل الذي لا يتجاوز دخله دولارين في اليوم هو الوسيلة الأنجع لصناعة هاتف جوال بكلفة لا تتجاوز عشر قيمته في السوق. وتاليًا فإن الشطر الأكبر من أرباح الشركة يأتي من فقر العمال الذين يصنعون منتجاتها وليس من اتساع رقعة مستهلكيها.

اقرأ/ي أيضًا: بيتكوين: أيديولوجيا إهدار الثروات والموارد

إلى ذلك يضطلع الفقراء والأقل دخلًا في العالم بمهمة إضافية تريد هذه الشركات استمرارها قيد التداول، وهي التي تتلخص بدفعهم لشراء نفاياتها. أي تلك الهواتف التي تخلى عنها أصحابها واقتنوا هواتف أحدث منها. في هذه الحال يقوم الفقراء والأقل دخلًا بمضاعفة أرباح الشركة، وشراء نفاياتها بأسعار تفوق كلفة صناعتها بكثير. وعليه، ثمة حلقة جهنمية ترسمها هذه الشركات، عن قصد أو غير قصد، تقضي بتأبيد الفقر والمعاناة في أرجاء واسعة من العالم، لأن الاستثمار في الإفقار بات اليوم يشكل الطريقة الأفضل لتحقيق الأرباح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن بعض البشر الذين لا يملكون وجوهًا كالكلاب

نشيد العولمة