في الأمس كنت في وداع اثنين من أصدقائي قررا الهجرة إلى أوروبا. رجلان يوشكان على الولوج إلى السبعين من عمرهما، توصلا، بعد حسابات ضُربت فيها الأخماس بالأسداس ألف مرة، إلى أن "وطنهما حقيبة وهما مسافران".
شعرت وكأن سنديانتين معمرتين تقتلعان بلا رحمة من جذورهما ذات الألف عام. أعرف كم هي صورة مبتذلة، ولكن ماذا أقول عن رجلين أمضيا عمرًا طويلًا يشيدان بيوتًا وأسرًا وصداقات وأواصر جيرة وأفكارًا وأحلامًا.. اعتقدا يومًا أنها راسخة رسوخ الجبال، وإذا بها مجرد قصور رمال من تلك التي كان أحفادهما ليتسلون بها على الشاطئ، لو كانت البلاد غير البلاد والزمان غير الزمان.
ولماذا يسافران الآن؟
لا شك أن غياب الكهرباء، وشح المياه، والإنهاك من الجري خلف صهاريج المازوت، والتوتر من مراقبة الأسعار المصابة بالهذيان. لا شك أنها أسباب، ولكن ثمة سبب أهم، وهو غياب الأمل.
وأي أمل لرجلين في هذا العمر؟
لا شك أن غياب الكهرباء، وشح المياه، والإنهاك من الجري خلف صهاريج المازوت، والتوتر من مراقبة الأسعار المصابة بالهذيان. لا شك أنها أسباب، ولكن ثمة سبب أهم، وهو غياب الأمل
أن يعيشا، بعد سنوات قليلة، شيخوخة هادئة، ويتحولا إلى جدين سعيدين يراقبان أحفادًا سعداء، يبتسمان لألعابهم المرحة، ويجيبان عن أسئلتهم الساذجة، ويرعيان أحلامهم، ويحصيان إنجازاتهم.
أليس هذا موضوع أمل مشروع أيضًا؟
والحقيقة أن وداع الأصدقاء المسافرين والمهاجرين، قد صار طقسًا لدي، يتكرر كل شهرين أو ثلاثة، حتى صار واقعيًا القول إنني فقدت جميع أصدقائي ممن ينتمون إلى عالمي قبل العام 2011. بعضهم ذهب إلى بلد آخر، وبعضهم ذهب، للأسف، إلى العالم الآخر. أما أنا فلا أزال هنا، إذ لم امتلك الشجاعة للذهاب إلى بلد آخر، ولم يتوقف قلبي بعد لأُمنح فيزا إلى العالم الآخر.
ولماذا أبقى؟ إنه الخوف وحسب. الخوف من ركوب البحر، الخوف من بداية جديدة، من تعلم لغة جديدة، الخوف من البرد وافتقاد الشمس، الخوف من افتقاد اللغة العربية.. ليس لأنني اعتبرها اللغة الأجمل، بل ببساطة لأنها اللغة الوحيدة التي أتقنها، وبالأدق: اللغة الوحيدة التي أتحدث بها دون أن يضحك مني أحد.
قال لي صديق، مرة، إنه قرر البقاء ليكون شاهدًا حتى لو صار شهيدًا. أنا لا أمتلك شجاعة الشهادة، كما أنني لا أمتلك هدوء العقل، ولا القدرة على أخذ المسافة المناسبة، لأكون شاهدًا. أنا الذي أعتبر المواظبة على حلاقة ذقني ضرب من الترف، أخشى أن يستفز الأكثر بؤسًا وإحباطًا من معارفي. إنني، فقط، حبيس هذه البلاد المنكوبة، بلا أي بطولة، وبلا ادعاء أي بطولة.
كتب صحفي سوري، منذ بضعة أشهر، أن "قدر هذه المنطقة أن تتعرض، بين حقبة تاريخية وأخرى، إلى هزة عنيفة، إلى حركة غربلة كبرى، وصفوة أبنائها هم الذين توزعهم على مختلف أنحاء العالم لينثروا هناك بذور حيوات جديدة".
وكما يحدث اليوم، فقد حدث هذا منذ مئة عام تقريبًا، إذ تحالفت الحرب والأوبئة والمجاعة على هذه البلاد، ففر كثير ممن بقوا على قيد الحياة، وركبوا البحار وقطعوا المحيطات، ووصلوا إلى بلدان بعيدة، استطاعوا أن يؤسسوا فيها لسلالات جديدة، أكثر صلابة وإقدامًا، وأكثر نجاحًا. سلالات شجاعة وطموحة، وإن ظلت لعقود طويلة مسكونة بالحنين.
ولكن هل لا يزال صدر العالم اليوم يتسع لأحلام مهاجرينا الجدد؟ هل سيتيح لهم إقامة سلالات جديدة ناجحة؟
اتصل بي صديق من السويد. كان صوته مترعًا بالدموع. قال: "حرفيًا أنا أموت شوقًا. يقتلني الحنين". قلت: "ولماذا أنت هناك إذن؟". قال: "أنا في مكان يجعلني أشعر بأنني إنسان، بأنني جدير بأن أحلم، وجدير بأن أحقق أحلامي".
لم أسأل صديقيَّ، اللذين ودعتهما أمس، عن سبب سفرهما. وأعرف أنهما لم يذهبا إلى هناك ليحلما، ذلك أن أحلامهما ستظل وحيدة هنا، خلفهما، وعلى الأرجح أنهما سافرا ليستمتعا بمراقبة أحلام أبنائهما وأحفادهما. ومن يدري.. ربما يتاح لهما معاينة نشوء سلالة جديدة هناك، أكثر قابلية للبقاء، أكثر قابلية للسعادة.