07-سبتمبر-2023
أيدي من زمنين

(Getty) أيدي من زمنين

لديهم يقين كامل بأنّهم هالكون، لكنهم يعيشون كي ينكروا هذه الحقيقة التي تؤكّد نفسها طوال الوقت.

يرفضون التقدم في العمر متشبثين بشبابهم، وكأنّ السابق واللاحق لا يصحّ احتسابه من حياة الإنسان.

ولأن هذا الرفض غير ممكن من الناحية الواقعية، لكنه قابل للتحقق نفسيًّا، لم يعد لدينا حلم البحث عن الحياة الأبدية كما فعل أسلافنا، بل أجرينا تعديلًا جوهريًّا ليكون لدينا وهم الشباب الأبدي.

ولكون الشباب مرحلة الجمال والنشاط البدني، مع نظرة سلبية عميقة لبقية فترات العمر، ويمكن أن نردّ هذه التصورات إلى أن تمركز الثقافة الراهنة حول هذه المرحلة، التي لا تُعطي حصانةً ضد الموت.

تلعب العلامات الجسدية من شيب وتجاعيد، مع التقدم في العمر، دورًا مهمًا في النظر إلى هذه التغييرات على أنها علامات تدهور وتراجع، فتُرى الشيخوخة وتُعامل على أنها نوع من الانحلال والتفكك

تلعب العلامات الجسدية من شيب وتجاعيد، مع التقدم في العمر، دورًا مهمًا في النظر إلى هذه التغييرات على أنها علامات تدهور وتراجع، فتُرى الشيخوخة وتُعامل على أنها نوع من الانحلال والتفكك، لهذا يتغلغل الخوف منها في الوعي الجماعيّ، وتتطور وراءه المشاعر المعقدة والمحن الشخصية.

نكتشف ونحن في ممرات متاهة هذا الخوف العالمي التعقيداتِ التي تربط البشر بالذعر من النفاذ الحتمي للوقت، لكنّ الغريب أنهم لا يفعلون ما يجب فعله، بل يصرون على استكمال الفراغ واللهو. وفي مواجهة هذا الخوف الذي لا يتوقف عن التنامي، يلجأ الأفراد إلى آليات تأقلم، فمنهم من يُخفي عمره الحقيقي بالكذب، ومنهم من يواريه بإجراء تدخلات جراحية.

وبدلًا من الرحلات الروحية العميقة إلى الجبال أو إلى معابد قديمة، كما اعتاد الناس أن يفعلوا دومًا في محاولاتهم الدائمة لاكتشاف أنفسهم، يرِد أهل زماننا ينابيع البوتوكس، ويدخلون معابد طب التجميل، دون أن يؤدي ذلك إلى التأثير على مسيرة الزمن نفسه.

والنتيجة الأخيرة؛ يصبح كلٌّ منا فاوست الذي يبيع روحَهُ مقابل لحظات عابرة من جمال وهميّ.

لماذا على كلّ من يتقدمون في السنّ أن يشعروا ويعيشوا مع المشاعر التي تريدها هذه المنظومة، الراسخة والقديمة؟ لماذا عليهم أن يُصدقوا ما يُفترض أن يشعروا به، ثم يشعروا به فعلًا؟ أليست هذه حياتهم، وأليس علينا أن نعرفها منهم؟ ثم لماذا لا نرى في التقدم بالعمر سوى الخسارة بدلًا من أن نراه اقترابًا من تكوين فهم شخصي لمعنى العيش المديد في الذات ومع الآخرين؟

يحضر هنا كلام قاله الفنان البريطاني ديفيد بوي: "الشيخوخة عملية نادرة تستطيع أن تكون فيها الشخص الذي كان يجب أن تكونه دائمًا".

إنها فرصة أخرى. إنها مرحلة المعنى. ولهذا فإن ما يقال عن الحكمة والتأني ليس مجانيًّا، لأنهما حصيلة ما كان من عيش. لا يعني هذا أنّ كلّ تقدّم في السن يوصل بالضرورة إلى هذه النقطة، فدائمًا ثمة من يرفضون أن يتعلّموا. لهذا نتحدث عن أصحاب التصورات الخاصة التي تقود إلى قبول الذات، واحترام التجارب المتنوعة لها مع نفسها، وكذلك مع سواها، مهما كانت سيئة، بما يقود إلى ابتكار هوية فريدة لأصحابها.

في مشهد من "الخلاص من شاوشانك" (The Shawshank Redemption)، يسأل موظف يفحص مدى تأثير العقوبة على أحد السجناء ليقرر إطلاق سراحة أم لا: "هل انت نادم على ما فعلت؟"، فيجيبه: "لا يمر يوم لا أشعر فيه بالندم، ليس لأني هنا، أو لأنك تعتقد أنه يتوجب عليّ الشعور بذلك. دائمًا أنظر خلفي في الطريق الذي كنت فيه شابًا غبيًّا ارتكب جريمة فظيعة. أكلمه، أحاول توعيته، أخبره كيف تسير الأمور، لكني لا أستطيع! هذا الشاب رحل منذ زمن بعيد ولم يتبق منه سوى هذا الرجل العجوز الذي لابد أن أتعايش معه".

لهذا يغدو هؤلاء قادرين على ابتكار الحياة حتى لو من سؤالٍ عابرٍ حين يجعلونه حوارًا حارًّا، وحين يحترفون تحويل التحية العادية إلى فرصة تعادل خوض رحلة. مكاتبتهم ممتعةٌ. إيميلاتهم تجعل الرسائل تستعيد نضارةً طمستها تطبيقات التراسل. يكتبون كلَّ ما يمكن أن يجعلهم قريبين، يكتبون كمن سيُسلّم الرسالة لحمامة.

من الحكمة أن نعيش ونحن معترفين بفنائنا، ومن الحماقة أن نعيش ونحن نظن أننا في زيارة لناد مفتوح على مدار الساعة.

لدي حكمة مبكرة أرغب بتسجيلها هنا: في الوقت القليل الذي نحدّده لأنفسنا سنفعل ما نعتقد أنه الأقرب إلينا، أما في الوقت المفتوح أمام وهم شباب لا ينتهي فسوف نؤجل، ثم سوف ننسى.