23-سبتمبر-2015

مثقف ألمعي لاهث خلف أكثر من جائزة (Getty)

إنَّ عزلًا بين المؤلفِ ومؤلفَه ليسَ إلاَّ أمرًا مدرسيًا نقديًا، يكونُ جائزًا في الدرسِ والموعظة النقدية التي يشتغل عليها أحدهم في نبش النص من جوانيتهِ، حيث يغيبُ الاسم أو يميتهُ تحتَ مسمىَّ "موت المؤلف" ذلك لتوطيد علاقة إجرائية مع النص غير حاجبة للمعنى وهو ما يقول به صاحب نظرية موت المؤلف رولان بارت، أمّا وقد رأىَ المتلقي المعني بالكتابة ضيقَ العالم وانكشافه على الكاتب وانكشافه هو عليه، صارت هذه العلاقة التبادلية التفاضلية موتًا للنظرية نفسها، مما ينسف رولان بارت وحجيتهُ، ويجعل المؤلف وجهًا لوجه مع قارئه بكل ما تثيره فعالية اللقاء من شهية ومن تبادل للأدوار، ويصبحُ العزلُ مظلمة وتخليصًا للمنتج الإبداعي من التزامه الأخلاقي في هذه الحال. 

منذ لمعان اسمه، يثير أدونيس الزوابع خلفهُ، وهو جدير بها لما يشكله فكره من تحدٍ صارخ لكثير من القضايا

يثير أدونيس ومنذ لمعان اسمه زوبعة خلفهُ، وللحقيقة هو جدير بهذه الزوبعة لما يشكله فكره من تحدٍ صارخ لكثير من القضايا، ربما أهمها قضية الخطاب النقدي الحداثي العربي وعلاقته مع الخطاب العالمي عمومًا، كذلك اشتغاله على ترجمات إشكالية أثّرت بجيل شعري وثقافي وبه أيضًا من نقطة محبته لما اشتغل عليه وأخذ منه لدرجة أن كتابًا صدر للناقد كاظم جهاد يتحدث فيه عن" أدونيس المنتحل" مما قرأه تغريبًا أو عاينهُ من التراث، ولعل أوهجها تناصه بل تلاصهُ مع النفري. 

ومع هذا لا يمكن للقارئ العربي أن يجد في هذا المثقف الكبير والشاعر والمتواجد في كل محفل لصًا، ذلك يعني أن الأسماء الكبيرة هذه أحاطت نفسها بهالة مبهرة لم يستطع القارئ العادي انتهاكها، وإذا انتهكت عرضًا فإن الأمر يكاد يكون من أكاديميين ومختصين لم تصل نصوصهم إلى الجدوى نتيجة للرصانة والرطانة المغلفة لها. 

كذلك يأخذ أدونيس من تصريحات شفاهية ومكتوبة دريئة يحتمي بها، إذ يصرّح أنه غير معني بما يكتب عنهُ على اعتبار الذين يكتبون "نكرات"، ولا يصلون إلى مستوى كتابته وأفعالهِ الحداثية، في حين هو في سلوكه يبدي العادية والمرونة التي تكاد تصل حد الافتعال وهو ما التقطه باحثون في "ملتقى الثلاثاء الكويتي" في ندوة تناولت صورته (بروفايله) في مجلة "دبي" الثقافية، معلنًا فيها عن نرجسية مبالغة بنفثه لدخان سيجارته، إذ تختفي تقريبًا معالم وجهه خلف الدخان كما لو أنه بذلك يريد أن يظهر صورة أخرى غير التي في داخله، أو أنه يتلطىَ خلف هذا الحاجز الوهم.

وإن دلَّ الأمر على المخفي فهو بالتأكيد الخلل/ العطب/ الازدواجية، التنصل الأخلاقي من إبداء الموقف الفكري والحقيقي والنقدي لمجمل ما يحدث سوريا وتحميل كل ذي مسؤول مسؤوليته، فإن كان الموقف هذا يطالب به كاتب صاعد لا يثير اهتمام وحفيظة أدونيس، فكيف هو بمثقف نرجسي يختفي خلفَ غيمة دخان؟ لقد رأى أدونيس الذي يدعو إلى فصل الدين عن السياسة -وهذا جاء في حيثيات منح جائزة "إريش ماريا ريمارك" للسلام- المظاهرات تخرج من المساجد، متناسيًا أن لا معارضة تقليدية موجودة في سوريا استطاعت تأسيس منتديات ومقرات يمكن لمن يريد أن يدلي بصوته أن يخرج منها، ومتناسيًا أن الذين خرجوا منم المساجد لم يكونوا ملتحين وبثياب قصيرة ومن "الوهابيين السعوديين"، كما درجت عادة النظام على القول، وتبناها المثقف الألمعي واللاهث خلف أكثر من جائزة، ومنها نوبل التي صارت له أشبه بحكاية "الأرنب والجزرة". 

منح جائزة السلام الألمانية لأدونيس طعنة غدر، تبدو كما لو أنها مقصودة ومشغول عليها

كان الشارع المرفوض اليوم سلميًا ترتفع فيه الأغنية والشعار الموحد واللافتة المؤدية للغرض، وكان حمّلة اللافتة لا يتبنون فكرًا بذاته فمنهم المتدين ومنهم الملحد، وكم لدى الجميع قصص تتحدث عن مسيحيين خرجوا من المسجد ومتدينين نادوا بالدولة المدنية. إن تجيير الثورة للتشظيات التي عمل عليها النظام وبعض مناصريه وبعض أصحاب المصالح في خراب ماكان يسمىَّ دولة ولو تجاوزًا وجر المنتفضين إلى السلاح، وبالتالي الدم والهجرة الكبيرة أشبه بالنزيف الذي لايتوقف والذي ينتقده أدونيس ساخراً، لهو تبرئة لنظام الأسد وتحميلُ المسؤولية للنتيجة وليس للمسبب.

منح الجائزة في هذه الأيام ومن مؤسسة تعنى بالسلام وتؤكد على حق الشعوب في حياة أفضل، وتسعى إلى المثاقفة وتحمل اسم كاتب كبير، ليست تقديرًا واحتفاء بالشاعر فحسب، وإنما طعنة غدر أخرى تبدو كما لو أنها مقصودة ومشغول عليها، تبرئ القاتل وتدين الضحايا، خاصة وأن الآلاف نزحوا من هول الكارثة إلى أرض الشاعر الذي منح أهلوه الجائزة كوسامٍ يزين صدر من تنكرَّ لألام أهله وانحاز للقاتل.. أدونيس بالضرورة قاتل.

أيها الألمان يامن خضتم يومًا في الدماء وعرفتم النار عن كثب، لا تقتلونا وقد أويتمونا وأحسنتم وفادتنا، فليس من العدل أن تكرمونا وتكرموا القاتل في الوقت نفسه.