03-يوليو-2019

جيمي هايدن/ أمريكا

  • إلى محمد المطرود وذئابه

1

يمكنك الانتظار، نعم هنا لو شئت وأمنتَ! حيث الظمأ السنوي يملأ جرارهُ من الحزن، وتلك الغبشة التي لم تتكون بعد. أقولها لك: هذا السرابُ الأصفر كقيحٍ الذي تراه أيها الراعي والفلاح والبدوي، وليست الغبشةُ الرطبةُ أمامهم أنت إمامهم، وما حدّهم عليك إلا قتل أحلام أطفالهم وحيواناتهم القنوطة وأرزاقهم القليلة.

هنا ما يكفي لعلاج أغنيةٍ دنفةٍ، وغابات من رمل وطيور تبحث عن ما يشحذُ وجودها الناشف/الباهت، أشباه وبقايا بشرية تحثّ أبناها على المكوث الأطول في هذه البقعة المشروخة كقطعة جبل صلبة، وأيضًا هنا من التسالي ما يشبع بغيةَ هاوٍ، أراد سحر المثاليات، وقعر اللغة، وجذر المحبة العذراء في كتب الجاهلين!

لا تقلق إن نابك ما نابهم يا أيها الحضري البدوي، أولًا ستنفذ خزينة هاتفك من الكهرباء المدنيّة، وثانيًا ستجتاحك لسعة البرد الصحراوي كعقربٍ تلدغ مكان ما من جسدك الأسمر الذي مازال وسكاكين العمر تنفذ فيه. لا يسعني أن أحصي لك، فما عدد يحصر اختلافك عنهم، لا تضطرب لن يمسوك بريشة حجل وادعة، ولن يتركك طيبهم للوحوش وحدك، لست وحدك، وإن أتاك الجوع مباغتةً أحرص على ذكره لأول عابر من أمامك، سيهبك زوادته ويكمل العبور. وعندما تصل لنهاية الوادي، كُفّ عن النظر وراءك فالغدر يتقهقر بولوجك الجنوب وأنت قلت الذئب سيد ولا يلتفت للخلف، امضِ يا بعض الذئب امض.

-هل لديك تساؤل يا سيدي! 

-بلى، هل من بوصلة ترشدني إلى بقايا الجنوب؟ 

-إليك المواويل، مناديلُ "الزينات"، الباز المجروح، سلال ورق العنب الجاف وحشائش الصحاري، أطلال ما دبّ هنا، أي هذا الطريق الذي لا تراه هذي هي العلامات، فاختر ياذئبنا الحنطي.

- وكيف وصل الذين وصلوا؟

 -من قال لك أنهم وصلوا؟ لازال الواصلون عالقين حالمين بهذا الطريق الطويل، يكفيهم أنّهم يسعون! 

 

2

التفت دوائر الغبار حولي ولأول مرة أشعر أن الأوكسجين صَعبٌ على التنفس وليس عونًا له، عوالق قديمة وليست حصى أو حجارة فتتها حوافر الخيل والزمن، أعتقد أنها نَدَب من كانوا هنا أو أرواح العالقين الذين لم يصلوا، أخافها وتخافني، لكزتني بذراعها الجلف، وإذ بي أمام سهلٍ متشققٍ كأنه هاوية تطلّ على بحيرةٍ جفت مذ هجرة السمك، لتبقى الأفاعي وحدها تنظم غزلية لا تناسب استقبالي!

أنت نعم أنت، أنا لستُ هنا ولا هناك، قد نسيتُ اسمي، أتقوى على مساعدتي، ميتٌ منذُ تركي اليهماء أقصدُ أرضي الذاهبة إلى موتها الشفيف، خذ هذه الوريقات وخِط عليها كل الأصوات في هذا الفضاء الخشن. إنها مسؤوليتك الآن، إن حاملي أصوات الذين ظُلموا لم يعبروا، ولو عبروا لكنّا تحررنا من هذا القتام، هذه العتمة البشرية، ربما تتساءل لماذا أنت؟ أو من أنت حتى تكون نجاتنا وثقتنا!

أقول لك: نحن لا نثق بك، لكن اعتدنا التعلق ولو بقشة، فما النجاة إلا أملٌ، أملٌ فقط ولم يقو آدميّ ولا جنيّ على حمله، أي لم ولن يصل.

 

3

أصيحُ بالبشر الخام: يا أيها البشر الخام، يا من بعثتموني من جديد، أصبحت كالفتيل وأنتم زيتي الضارم، وهذا الجنوب قارورتي المتحجّرة، أناجي ذئبكم الأثيل أن ينفخ علي لارتفع وأعبر، قبل أن تضمحل يداي التي خطت أملكم وخذلانكم، كلّي شفاعة بهذا الذئب، إن الذي حمى "فتنة الجنوب" من شر الكلاب والجفاف المسعور لابد أنه معجزة تتحمل التكرار، لا أقول أنني هشٌ لكن ما عَلت به أصواتكم أثقل من هيكلي الريشي، أصواتكم كثقل من هامت به الأفكار بين الجوع والعطش واختار الموت لأنه الخيار الأمثل، أقول لكم بلسان الذئب ونابه ومخالبه: الحياة.. الحياة.

هات يا ذئب ذاك الموال قبل موسم الكمأ، راع البرق يا ذئب الجنوب، والدفعة الأولى من أبي وهو يصير فكرة من الماضي، سقاك الله يا فتنة فاللحن سقم، والسحالي وترٌ، أما أنا الغبشةُ المنتظرةُ التي لم تلد، هل أنصتم يا بشر إليّ!

أقول هذا ولي في الغُصّة الغّصّة ماضيكم، وإن كانت خطوط السماء لا تعرج على البيادر، أراكم، أحنُّ عليّ من المدائن الأنقاضِ، تلك المدائن والألوان والضوء الزهري والأزرق وشاشات التلفاز والمثلجات وأباريق العصير والقطن المنسوج والمسجلات، والسيارات، كلها خانتكم، كما لو خانتني وتركتني للذكرى التي ألزمتني هذه الكتابةِ الضعيفة مثل ضوء القرى الجنوبية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رأس السمكة

ما باليد حيلة إلّا الاستسلام