11-سبتمبر-2023
أبو غابي-حفلة هامبورغ

أبو غابي في مسرح تاليا

يذكّرنا صوت أبو غابي بكلّ ما نُحب ممّا تربينا عليه، بتلاوة القرآن والأذان والموالد الدينية والأعراس الشعبية، دون أن تكون فيه شبهة غلوّ أو تعصّب، كما لو أنه صفّى ثقافتنا مما لحق بها من شوائب، وأعاد إليها نضارتها المفقودة، لتتخذ شكلها المشتهى: أغنية!

هكذا إذًا: الصلاة أغنية، والحنّاء أغنية، والولادة أغنية، والحزن أغنية، والحياة نفسها، في آخر المطاف، ليست سوى أغنية!

لو أنّ الأصوات تُرسم، لو أنها قابلةٌ للتجسيد، لما أخذ صوته شكلًا سوى المنمنمات الشرقية. ولا عجب في ذلك لأنه يُذكّرنا أننا منمنمات، وأنّ كلًّا منا مثلها في النهاية، من حيث كونه عنصرًا أساسيًّا في جدارية كبيرة، هي ذاتها صورة مصغّرة عن الكون، واختصار للطبيعة وكائناتها. ومثلما تتجلّى الفكرة في العالم الكبير تتجلى فينا، لتنتقل منا إلى وحدات ناظمة لموسيقى الشعر أو لعمارة المباني.

يهتم أبو غابي بغناء النساء لما يُمثّله من حالة تقدمية، ولكونه يعيد خصوصية غناء الأمهات والجدات، ويحضر هذا الغناء بشكل كبير في ألبومه الأخير "سجى بلدي"

وعلى هذا المنوال شديد البساطة والتعقيد معًا، تبدو حياتنا في هذا العالم الغنائيّ، بحلوها ومرّها، رحلةً روحية إلى أصل لامحدود ولانهائي، أو أنها تكثيف لمعناها كنموها مستمر في ما هو خيّر وجميل.

يُصحح المغني وضعًا ثقافيًّا مختلًا بصوته، في الوقت الذي يحاول فيه العلماء والفلاسفة التدخل من خلال نظرياتهم ويفشلون، لأنهم يعملون لأجل نخب تنتظر من ذلك عائدًا واحدًا هو النفوذ أو الثروة، في حين تفعل الأغاني فعلًا يوحّد بين الطبيعة والثقافة، لهذا تصحّح الأغنية خلل الهوية ومعنى العيش بمعناه الواسع.

حضر كل ذلك في الحفلة الأخيرة في مدينة هامبورغ، التي أقيمت أمس في مسرح تاليا (Thalia Theater)، ضمن فعاليات مهرجان الصيف الذي تنظمه مؤسسة "سفارة الأمل" (Embassy of Hope).

من خلال استلهامه الكبيرة لحياة اللجوء والمنفى والغياب، وربطها بتراث الهجر والفراق الراسخ في ثقافتنا، مع توجّه طريف للغاية في الحديث عن اللاجئين، في اغترابهم، والغزل الشعبي القائم على الفراق، وحبّ المكان.

شاركه المنصة كلٌّ من عازف العود مهند نصر، وعازف الكلارينت يزن صباغ، وعازف الكمان أيمن هلال، وعازف الإيقاع يوسف زياد، وعازف الغيتار البيس عمر حرب. وكان لافتًا كيف مزجوا بين خلفياتهم الموسيقية الأكاديمية وأدائهم الشعبي، في صفاء وعلو مزاج لا يُرى عادة خارج فضاءات الأعراس. أما السينوغرافيا فمن تصميم الفنان ربيع السيد.

أعاد كورال أورسينا النسائي تذكيرنا بالغناء النسائي في بلادنا، خصوصًا في الهلهولة الشامية وما يتبعها من الزغاريد. يحاول الكورال المكوّن من أمهات سوريات من مدينة هامبورغ الانطلاق من السليقة والحاجة العاطفية للغناء، لا من احترافه، كما يسعى إلى استعادة الطقس الثقافي للفرح في بلاد الاغتراب.

يهتم أبو غابي بغناء النساء لما يُمثّله من حالة تقدمية، ولكونه يعيد خصوصية غناء الأمهات والجدات، ويحضر هذا الغناء بشكل كبير في ألبومه الأخير "سجى بلدي"، الذي كانت هذه الحفلة هي الثالثة في جولته الأوروبية.

يحيلنا عنوان هذا الألبوم العنوان على قراءات متعددة، أهو "سجى بلديْ"، أي أن البلد سجى وهدأَ وسكنَ، أي حلّ عليه السلام أخيرًا؟ أم هو "بلديّ" بياء النسبة التي تربط هذا السجى ببلد صاحبه، وكأنّ هذا النوع من الهدوء لا يكون إلا في هذا البلد؟

أبو غابي في

وبالطبع لا يمكننا أن نَغضَّ الطرف عن التقارب الشكلي بين لفظي السجى واسم مقام السيجاه، إذ يبدو السجو هنا وكأنه المقام الموسيقي المنشود.

يتراجع النقد عادةً خطوة إلى الوراء لأننا نحتاج، بالدرجة الأولى، أن نفسح المجال لمشاعرنا كي تتحدّث عبر الموسيقى لأنّها تعطي الناس مساحة للشعور بمن هم، وبماذا يرغبون ان يكونوا. ولأجل هذا لا يمكننا أن نوازن بين كلّ ما كُتب وما يُكتب أمام مقارنة ذلك بدموع أو نشيج من يسمعون أغنية أو قطعة موسيقية، وفي هذه الحفلة امتلأت مدرجات المسرح بالبكاة، وراحت الدموع تجسر المسافة الفاصلة بين الصوت والكلمات الضائعة.

يعيدنا مشروع أبو غابي الجديد إلى رصد التقاطعات الأساسية في بناء الشعر العربي القديم، ومثله الشعر الشعبي الموزون، وبين الموسيقى العربية بمقاماتها المختلفة، وأيضًا بين فن الأرابيسك. فحيث يميل الشعر إلى أن يعبّر عن المشاعر من خلال حكاية قصة أو رسم حالة شعورية ما، وحيث تعمل الموسيقى على أن تؤجج حاسة السمع وتنقل المشاعر والقصص من خلال الصوت واللحن، فإن الأرابيسك يخلق شعورًا بالانسجام والجمال من خلال الأنماط البصرية المتكررة. وهذه الأنماط التي تتخذ شكل وحدات نباتية أو هندسية، هي ذاتها في عروض الشعر وفي الوحدة الموسيقية.

توفرت هذه التقاطعات في تجربة أبو غابي، سواء في ألبومه الأول "حجاز حرب" أو في أغانيه المنفردة بعده، لكنها راحت تتعزّز أكثر وأكثر مع الوقت، حتى باتت كاملة المعالم في ألبومه الجديد، وكأن الأغاني والموسيقى والشِّعر والعمارة زخارف تُنقش بالأفواه كي تقرأ بالحواس والذاكرة والخيال.