30-ديسمبر-2018

أبو غابي (فيسبوك)

ليس أبو غابي فنّانًا بالمعنى الدارج. ليس نجمًا ترعاه مؤسسة وتنفق على الاستثمار في صورته. ليس صاحب صفحة بآلاف المعجبين على إحدى المنصات. ليس مدججًا بترسانة علاقات عامة. ليس خريجًا من أكاديمية "روتانا". هو في مكان آخر تمامًا، وهويته تُختصر في المعادلة الآتية: شخصٌ يحلم بأن يغني، ويغني ليحلم.

ينفرد الصوت دونًا عن بقية المواهب في كونه يختار أصحابه، ويأتي إلى حناجرهم كاملًا منذ اللحظة الأولى

الفنّان صفةٌ لم تصنع لمن هم مثله. أعني النهر والطير والشجر والحجر والماء. أعني كلّ عنصرٍ حيّ حضورُهُ قائم على الإبداع ولا يجد أحدًا يعطيه تلك الصفة. وأعني أيضًا مدى سخف الأمر وتهافته فيما لو أعطيناها لواحدٍ من هؤلاء.

اقرأ/ي أيضًا: بليغ حمدي.. أكبر من النسيان

في داخله حكاياتٌ جنونيّة تأبى مغادرته. حكايات عن مخيم اليرموك، وعن أهل اليرموك الذين قهروا المكان كما قهرهم، وعن سريالية وعجائب الحياة في اليرموك. يحكي قصصًا طوال اليوم كأنّ رواية القصص نشاطٌ بيولوجيّ. وحين لا يجد ما يرويه تراه مُستحضرًا ما حكاه ومن حكى عنهم من قبل، مقلّدًا أساليبهم مستعيدًا كلماتهم، فتعرف أنَّه صار ذلك الرجل المؤمن بسحر الطب البديل، أو تلك المرأة صانعة الأمثال الشعبية.

على هذا النحو، يؤكّد لمن يعرفون الحكاية، منه من قبل، أنها قابلة لأنْ تتحقّق وتعيش معنا بشخصياتها الأصلية بألف طريقة وطريقة.

وعلى هذا النحو أيضًا، لم يتحوّل إلى راوية لأخبار يرموكه، وحافظًا لقصصه وسير أناسه، إلا لأنها طريقته الوحيدة للإقامة فيه، للبقاء هناك، على الرغم من أنّ مخيم اليرموك انتهى.

تعلّمَ الغناء دونما تخطيط بأنه سيكون مشروعه. طاف على مدارس المنشدين والمتصوفة يتسقّط المقامات وأداءها. جرّبَ تعلم الموسيقى، إخراج الأفلام، كتابة المقالات، إعداد الفيديوهات.. إلخ، والآن يجرّب أن يصبح مرشدًا في أنظمة الحمية الغذائية، وسيجرّب في الغد كلّ ما سيعرضه عليه المستقبل. تلك طريقته في التهرّب من استحقاق أن يكون فنّانًا بالفهم القاصر الذي يسعى إليه الناس في مناكب الأرض، ويعلنون عن أنفسهم فنانين حتى لو لم يجرِ الاعتراف بهم وبفنهم.

رحّالة بين التجارب، وليس الفن سوى دابة يقطع بها الطرقات.

صوته بنفاسةِ مخطوطةٍ، فيه من العُتُق ما يشعركَ بأنه أقدم من صاحبه، وفيه من المحتوى ما يبدو تجميعًا لأسرار الطبيعة، صانعةِ أوّل الأصوات، مُشيّدة أوّل مسرح، مُفجرِّة الأشكال الأولى التي لا يزال الرسامون يلهجون بتقليدها.

ولئلا يبدو ذلك واقعًا في باب المبالغة، علينا الانتباه إلى أنّ الفنون، بمختلف أسمائها وأنواعها ومدارسها، تحتاج مراسًا ودُرْبةً ممن يختارونها، فيما ينفرد الصوت دونًا عن بقية المواهب في كونه يختار أصحابه، ويأتي إلى حناجرهم كاملًا منذ اللحظة الأولى. ولادة الأصوات الجميلة في البشر لا تختلف في منطقها عن انفجار الينابيع في الطبيعة.

بسبب هذا كلّه، لا يحتاج أبو غابي إلى الأشكال التي نعرفها من الموسيقى والغناء، وفنونهما، وأدائهما. لا حاجة به إلى ألحان، ولا إلى آلاتٍ موسيقية، ولا إلى نصوص. غناؤه ضدّ الغناء المصنوع، بالأخص في آهاته وتفريداته، وما ذلك إلا لأنّ الطيور معلموه، ولأنّ الأصواتَ التي تعيش إلى جوارنا في هذا الكوكب ونصمّ السمع عنها مرجعُهُ.

مع أبي غابي، الصوتُ كيانٌ مليء باللغات والأشكال البصرية والروائح والذكريات والأحاسيس والآلام

جالسْهُ وستراه قادرًا على تحويل كلّ شيء إلى أغنية: سلامَه وتحيّتَه، القصةَ التي يرويها لجلسائه، النكتةَ التي تأتيه في لحظة سخرية، طلبَ كأس الماء من النادل؛ جالسْهُ وسترى كيف تكتسي تلك الأشياء العادية بهيبة أغنياتٍ تتوارثها الأجيال تلو الأجيال.

اقرأ/ي أيضًا: "ثلاثي أين" لـ باسل زايد.. سردٌ موسيقيّ على ضفّتي المتوسّط

مع أبي غابي، الصوتُ كيانٌ مليء باللغات والأشكال البصرية والروائح والذكريات والأحاسيس والآلام، لا لشيءٍ إلا لأنه يفعل فينا ما يفعله طير يشدو في وادٍ، تاركًا الصدى يتردّد بين الجبال صاخبًا إلى درجةٍ يوشك فيها على اقتلاعها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا كرهت إسرائيل موسيقى ريتشارد فاغنر؟

كايروكي وحمو بيكا.. من يغني للشارع المصري؟