29-يونيو-2016

القاهرة صبيحة الانقلاب (الأناضول)

قبل ستِ سنوات، حينما أحرق محمد البوعزيزي نفسه، وفجر من وراءه ثورات جابت الوطن العربي من غربه إلى شرقه، قبل صنيعه ذاك لم يكن يتخيل أي مواطنٍ عربي أن التغيير قد يجوز ويحصل، بل ربما لم يكن الأمر منطقيًا حتى أو ضمن حدود المتوقع، لكن معجزة الربيع العربي تمت، أو بالأدق لنقل "قيد التنفيذ"، فصحيح أن تونس مرت إلى بر الأمان، لكن ليبيا واليمن وقعتا في نزاعٍ داخلي مسلح حيال السلطة بعد الثورة، وبعيداً عن سوريا وتعقيدها الإعلامي، نجد مصر في حالةٍ خاصة بعد نجاح 25 يناير وسقوط العسكر وعودتهم للحكم مرةً أخرى، وانقسام المصريين حينها إن كان يونيو استكمالاً للثورة أم انقلابٌ عسكري.

الدكتاتور سيبقى دكتاتورًا، لكن يبدو أن المصريين في 30 يونيو لم يكونوا قد تعلموا مما حصل حين أسقط الضباط الأحرار النظام الملكي

"حينها" فقط وليس إلى الآن كانت تلك الحيرة أو اللغط يشوبان الحالة المصرية، لأن ما حدث ويحدث بعد الثلاثين من حزيران/يونيو المعهود، وعلى مدار الـثلاث سنوات الأخيرة لا يمكن أن نخلع عليه اسم الثورة أو الاستكمال لها، ربما كان حِراك يونيو أساسه سليمٌ بريء، لكن نتائجه وما ترتب عليه يجعل مسمى الانقلاب العسكري وحده من نستطيع تلقبيه إياه، فبعد 25 يناير وإزاحة الثوار في ميدان التحرير لمبارك، وفوز الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بدأت مرحلة جديدة خفية من صراع العسكر والإسلام السياسي الممتد منذ عقود، وليوازيها جلوس الشعب المصري حاملاً الورقة والقلم، ليسجلوا لمرسي وجماعة الإخوان أعمالهم، وليقيموا فشلهم من نجاحهم.

اقرأ/ي أيضًا: التسول مشكلة اجتماعية وسياسية

الإخوان فشلوا سياسيًا ولا مجاملة في ذلك، مشروع النهضة كان أملاً كاذبًا، بعد اكتشاف كونه مقترحات وليس خططًا للتنفيذ، والشكوك تراكمت وتعاقبت إن كان مرسي رئيسًا لمصر أم بديع والشاطر، ولا شيء كان سيؤلم المصريين أكثر من كون القرارات تابعة لجهاتٍ غير رسمية، أي جهات إخوانية، خاصةً بعد الأمنيات الهائلة إبان نجاح الثورة الحُلم، وليضاف إليها شح الخدمات من مياهٍ وكهرباء ومحروقات وما للجيش من باع في هذا المضمار. كل هذه مبرراتٌ ودوافع مشروعة لخروج الملايين مطالبين برحيل مرسي، الذي تمسك بكلمة "الشرعية" في خطابه الأخير، متجاهلاً التقصير الواقع على عاتقه هو وحكومته.

هنا خرجت "ضربة المعلم"، الفرصة التي انتظرها الجيش منذ عزله عن سدة الدولة، فمن جلس على عرش مصر طوال أكثر من ستين عامًا، لن يقبل أن يزاح من مكانه أكثر من عامٍ واحد!

مرسي والحكومة تحت سخطٍ شعبي واسع، وأي شخص سيأتي ويقول للمصريين الجملة الشهيرة لأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام "يا مصر قومي وشدي الحيل"، سيتمسك به الشعب وسيوصله إلى درجة التأليه والقداسة! فهم في مرمى نارين متخيلين بطلهما الإخوان المسلمون، الأول حكومةٌ فاشلة والثاني تكفيرٌ دون وجه حق! صحيحٌ أن الثانية لم تخرج من الحكومة أو مرسي شخصيًا، إنما من منتمين وليس حتى قيادات من جماعة الإخوان، لكن حين الغضب لن يميز الشعب بين مؤيدٍ للجماعة يشتم ويعتدي على المتظاهرين ضد نظامه، وبين شخص المرشد!

اقرأ/ي أيضًا: داعش مدرستنا 

من يتخيل أن أي نظامٍ دكتاتوري أسقطه الشعب وأقام الديمقراطية مكانه، سيرضخ لإرادة الملايين دون أي التفافٍ ومحاولةٍ للعودة، سيكون قد سفه نفسه، حتى وإن رجع الدكتاتور بثوب رجلٍ إصلاحي وطني، ونزع بزته العسكرية وارتدى أرقى بدلة رسمية، الدكتاتور سيبقى دكتاتوراً، لكن يبدو أن المصريين لم يكونوا قد تعلموا مما حصل حين أسقط الضباط الأحرار النظام الملكي، وعدوهم بالحرية والكرامة وجلسوا على صدورهم ستين عامًا، أيدوهم والتفوا حولهم هربًا من جحيم الإقطاعيين وجشع العائلة الملكية، ليعود التاريخ ويكتب ذات "السيناريو"، بهرب المصريين من خطر "التكفير" وضياع الثورة إلى العسكر، و"كإنك يا أبو زيد ما غزيت".

لأول مرة نرى ثورة شعبية تقام على دماء الأبرياء، الذين صنفوا من النظام والإعلام بـ"الإرهابيين" وحملة السلاح

حسناً، كان نظام مرسي عاجزًا عن قيادة مصر نحو ما يسمو إليه الشعب بعد الثورة، لكن أكان هذا مبررًا بعزله عسكريًا؟ 17 يومًا من الأحداث حتى تنحى مبارك عن الحكم، ولم يخرج الجيش ببيان تهديدٍ حينها بعزله، لكن ثلاثة أيامٍ لا غير كانت كافية لإتمام أسرع "ثورة" كما روجوا لها!

بعيدًا عن كل ما سبق، وعن كل ما قلناه قبل قليل، لماذا كل هذا "التقديس" لعبد الفتاح السيسي؟ أنقذ مصر من جحيم الإخوان و"التكفيريين"، ثم ماذا؟ آلاف القتلى في قصفٍ عنيف وجهه لرابعة العدوية والنهضة، أباد كل المعارضة التي خرجت ضده تحت مسمى استكمال الثورة، لم يفعلها مرسي "الخائن الفاشل" كما سُمي، لكن صنعها "فارس مصر" المزعوم، ولأول مرة نرى ثورة شعبية تقام على دماء الأبرياء، الذين صنفوا من النظام والإعلام بـ"الإرهابيين" وحملة السلاح، ويحصل قاتلهم على تأييدٍ جماهيري حافل ويُنصب رئيسًا للبلاد.

وللمقارنة بما حصل بعد يناير مع الأحداث التي تلت يونيو، نجد الفارق الشاسع بين النظامين، مرسي وكل أعضاء الإخوان المسلمين ومناصريهم، جميعهم منذ يونيو وحتى الآن يقبعون خلف القضبان، بتهم مختلفة لم تثبت الإدانة بها رغم مضي ثلاث سنوات، بينما لم يعتقل سوى قلة قليلة بعد يناير من الحزب الوطني الحاكم حينها، تلخصوا بمبارك ونجليه وحبيب العادلي وبعض الفاسدين الآخرين، وجميعهم يجزم الشعب على مسؤوليتهم وإجرامهم، وبالحديث عن هؤلاء، كيف يخرجون بـ"البراءة" بعد يونيو، وتجريمهم مطلبٌ من مطالب 25 يناير، والتي خرج الجيش ليعيد تصويب مسارها كما يدعي؟

وإن كانت المقاربة اقتصادية، فنكتفي بذكر انهيار صرف الجنيه مقابل الدولار، وأضحوكة قناة السويس الثانية، علاوةً على الديون والاستقراض و"طلب الإحسان" المتواتر من دول الخليج، آخرها كان ملياري دولار سنويًا من السعودية، مقابل التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وهذا ما لم يعتبره مؤيدو الانقلاب إضرارًا بالأمن القومي المصري، مثلما روجوا عن مرسي إبان الاتهامات بالتخابر مع حماس وإيران وقطر.

مصر تستحق أفضل من الاثنين، أفضل ممن يكفر أهلها، وممن يخونهم لرفضهم الجيش "حامي الحمى" وسماع "تسلم الأيادي"

اقرأ/ي أيضًا: الحتمية الاقتصادية أم الصراع الطبقي؟ 

قبل فترة، خرج الشعب المصري في مظاهراتٍ تحت مسمى "جمعة الأرض"، ربما لا تعد الأكبر حجمًا، لكنها الأكثر تأثيرًا، خصوصًا في عودة شعارات ثورة يناير "الشعب يريد اسقاط النظام" و"يسقط يسقط حكم العسكر" و"ارحل"، ربما تكون بادرةً لمرحلة جديدة من الحكاية المصرية.

فشل الإخوان سياسيًا، وفشل مرسي أكثر حينما عجز عن احتواء الأزمة ولم يخرج إلى الجماهير لامتصاص غضبهم، وحين رفض أن يتنازل عند مطالبهم، والتي كانت بعضها بيده كإلغاء الإعلان الدستوري المكمل الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2012، والذي وصفه الإعلام المصري حينها بـ"تنصيب مرسي لنفسهِ دكتاتورًا وفرعونًا جديدًا"، بعد أن جعل القرارات الرئاسية غير قابلة للطعن حتى إقرار الدستور الجديد وانتخاب مجلس الشعب.

طوال أكثر من ثمانين عامًا لعب الإخوان دورهم في المعارضة، واستمرت المناكفات بينهم وبين الجيش الحاكم، ولم يعدّوا أنفسهم للحظة ليتولوا زمام الحكم، في يومٍ رأوه بعيدًا لكنه كان قريبًا فسقطوا في الاختبار. لكن مصر تستحق أفضل من الاثنين، أفضل ممن يكفر أهلها، وممن يخونهم لرفضهم الجيش "حامي الحمى" وسماع "تسلم الأيادي".

اقرأ/ي أيضًا:

زمن اللاعقاب في الجزائر

"غوستاف لوبون" أمام لجان الثانوية العامة!